وأحضرها القضاة والفقهاء للفصل ، وحضرها بنفسه في أكثر الأوقات ، واستمع من المتظلمين الدعاوي والبيّنات ، طلبا للإنصاف والفضل ، وحرصا على إقامة العدل.
وأدرّ على الضعفاء والأيتام الصدقات ، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصّلات ، حتى وقف وقوفا على المرضى والمجانين وأقام لهم الأطباء والمعالجين ، وكذلك على جماعة العميان ، ومعلّمي الخط والقرآن ، وعلى ساكني الحرمين ، ومجاوري المسجدين ، وأكرم أمير المدينة الحسين ، وأحسن إليه ، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه ، وجهز معه عسكرا لحفظ المدينة ، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المئونة ، وأقطع أمير مكة إقطاعا سنيا ، وأعطى كلا منهما ما يأكله هنيا مريا.
ورفع عن الحجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكس ، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجّاج بالنحس ، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول ، واستخراج العين التي بأحد ، وكانت قد دفنتها السيول ، ودعي له بالحرمين ، واشتهر صيته في الخافقين.
وعمّر الربط والخانقاهات والبيمارستانات ، وبنى الجسور في الطرق والخانات ، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين ، وأجرى الأرزاق على معلميهم ، وعليهم (١) وبقدر ما يكفيهم ، وكذلك صنع لمّا ملك سنجار ، وحرّان ، والرها ، والرقة ، ومنبج ، وشيزر ، وحماه ، وحمص ، وبعلبك ، وصرخد ، وتدمر ، فما من بلد منها إلّا وله فيه حسن أثر ، وما من أهلها أحد إلّا نظر له أحسن نظر.
وحصّل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلّابها ، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها ، وجدّد كثيرا من ذي السبيل ، وهدى بجهده إلى سواء السبيل.
وأجهد نفسه في جهاد أعداء الله ، وبالغ في حربهم ، وتحصّل في أسره جماعة من أمراء الفرنج ـ خذلهم الله ـ كجوسلين وابنه ، وابن ألفونس (٢) ، وقومص أطرابلس وجماعة من ضربهم.
وكان متملك الروم قد خرج من قسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعا في تسلّم أنطاكية ، فشغله عن مرامه الذي رامه بالمراسلة ، إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من
__________________
(١) استدركت على هامش الأصل ، وبعدها صح.
(٢) في «ز» : وابن القيس.