قال : ثم دعا بثياب فقطع لي ودفع إلي منطقة ومضيت معه ، فلمّا دخلنا مجلس الخليفة ، وكان إذا جلس قعد على سرير وضرب بينه وبينهم ستارة ، فإذا طرب دعا من يريد فأدخله وراء الستارة فأقعده معه ، فلمّا أخذ المغنون والندماء مجالسهم قال لابن جامع : يا بن جامع ، ما صنعت لي من الغناء؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قد صنعت صوتا ما صنع أحد مثله ، وما سمعه مني أحد ، قال : هاته ، فاندفع يغني :
أما القطاة فإنّي سوف أنعتها |
|
نعتا يوافق نعتي بعض ما فيها |
قال مخارق : فأعجب به ـ والله ـ إعجابا شديدا ، وأنا واقف على باب البيت ، ورأيت إبراهيم قد استرخت يداه مما دخل قلبه من الزمع (١) ، وكان ـ والله ـ هذا الصوت مما يدور في حلقي وطبعي ، فتمنيت أن يعيده ، فقال له هارون (٢) : أعده ، فأعاده ، فأخذته ، فقلت : إن أعاده الثالثة استوى لي ، وكنت أحذق به منه ، فاستعاده ثالثة ورابعة ، وما استتم الرابعة حتى سقط العود من يد إبراهيم ، وحانت منه التفاتة ، فنظر إليّ فأومأت إليه ، أي : ما لك؟ أنا والله أحذق به منه ، فأسرّ إليّ : ويحك ، إنه أمير المؤمنين ، وإن لم تحسنه فهو (٣) السيف ، فأشرت إليه أن : قل له ولا تخف.
فقال إبراهيم : يا أمير المؤمنين ، هذا غلامي الذي وصفته لك ، أحسن غناء له منه ، فغضب ابن جامع وقال : والله يا أمير المؤمنين ولا يحذقه في سنّه ، فقال أمير المؤمنين : دعاني من اختلافكما ، قل للغلام ليغنّه إن كان يحسنه؟ فاندفعت ، فما مررت في مصراع من البيت حتى قطع الستارة ، وقال : هاهنا ، هاهنا يا غلام ، فدنوت منه حتى وقفت بين يدي السرير ، فقال : اصعد ، فأقعدني تحته ، فغنّيت الصوت مرارا ، وتهلل وجه إبراهيم ، وضرب أحسن ضرب وأطربه ، ثم قال الرشيد : بحياتي ، هل سمعته قبل يومك هذا؟ قلت : لا والله يا أمير المؤمنين ، فقال : يا مسرور هات ثلاثين ألف درهم ، وثلاثة مناديل في كلّ منديل عشرة أثواب من خزّ وشي وملحم وغير ذلك ، وحملني على ثلاثة دوابّ ، وأعطاني ثلاثة غلمان ، وأجرى عليّ ثلاثة آلاف درهم في كلّ شهر ، فلم تزل جارية لي حتى قدم المأمون فأضعفها ، فهذا أول مال اكتسبته.
قال مخارق : وكنّاني الرشيد أبا المهنّى ، وكان سبب تكنيته لي بأبي المهنّى أنه رفع
__________________
(١) الزمع : الدهش.
(٢) مكانها بياض في م و «ز».
(٣) مكانها بياض في م ، و «ز».