المصلّى الشريف كان بها خشبة ظاهرة محكمة بالرصاص ، يقول الناس : إنها من الجذع الذي حن للنبي صلىاللهعليهوسلم وأن المطري قال : إن الأمر ليس كذلك ، وإن العز ابن جماعة أمر بإزالتها ، فأزيلت عام خمس وخمسين وسبعمائة.
قال المجد : ورأى بعض العلماء أن إزالتها كانت وهما منهما ، وذلك أن إتقان هذه الخشبة ، وترصيصها بين حجارة الأسطوان وإبرازها لم يكن سدى ، وإنما شاهد الحال يشهد بأنه كان من عمل عمر بن عبد العزيز ؛ فالظاهر أنه كان من الجذع.
قلت : بل الظاهر أنها ليست منه ؛ إذ لم ينقل بقاء شيء منه ، بل الظاهر أنها من هذا العود المذكور ؛ لما قدمناه فيه ، ولما سيأتي عن ابن النجار.
وقول الزيني المراغي : «إن احتمال ذلك كان يمكن تسليمه قبل حريق المسجد ، أما بعده فمردود ؛ لأنه بقي من حريق المسجد بقايا خشب كثيرة كما سنحققه».
وقول المؤرخين : «إنه لم يبق ولا خشبة واحدة» مردود ؛ فقد شاهدت عند إزالة هدم الحريق من الحجرة الشريفة ما لا يحصى من أطراف الخشب المحترق ، حتى ميزاب الحجرة الشريفة رأيته من عرعر (١) فيما أظن احترق بعضه وبقي منه قدر الذراع ، وأخذ الناس كثيرا من تلك الأخشاب ، واتخذ متولي العمارة وغيره منها سبحا كثيرة ، وعبارة ابن النجار صريحة فيما ذكرناه من كون العود المذكور كان بالأسطوانة المذكورة ، فإنه ترجم عليه بقوله : «ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة» ، ثم روى عن أهل السير خبر مصعب بن ثابت المتقدم.
وشيوع أن تلك الخشبة من الجذع قديم ، فقد قال ابن جبير في رحلته : إن بإزاء الروضة ـ يعني المصلى الشريف منها ـ لجهة القبلة عمودا مطبقا يقال : أنه على بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلىاللهعليهوسلم وقطعة منه وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها ، وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق ، انتهى.
واستفيد منه أيضا أن وضع الصندوق هناك كان قبل حريق المسجد في زمنه ، وسبب الشيوع المذكور في تلك الخشبة ما سيأتي من أن الجذع كان قريبا من محل الأسطوانة المذكورة ؛ فالظاهر أن الخشبة المذكورة كانت قريبا منه في الجدار ، فجعلت في تلك الأسطوانة لقربها من المحل الأول ؛ فقد روى يحيى أيضا عن أنس بن مالك أن النبي صلىاللهعليهوسلم «كان يستمسك بعود كان في القبلة ، ثم يلتفت عن يمينه وعن شماله ، فإذا استوت الصفوف كبر».
__________________
(١) العرعر : جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات ، فيه أنواع تصلح للأحراج وللتزيين.