قال الشافعي : لا يجوز لغير أهل المدينة أن يماروا أهل مكة ولا ينافسوهم لأن الله فضّلهم على سائر البلاد ، انتهى. وحاصل التوجيه أن الحسد في الخير مطلوب ، وهو في الحقيقة غبطة كما حسد المهاجرون ـ لما لم يكن لهم ما يتصدقون به ـ الأنصار فقالوا : ذهب أهل الدثور بالأجور (١) ، فأثبت أهل المدينة هذا العدد بضرب من الاجتهاد ليلحقوا بأهل مكة ، وقد تشارك البلدان في الفضائل حتى اختلف في تفضيل كل منهما على الأخرى ، وجعل لأهل المدينة ما يحصل به ثواب الاعتمار والحج ، وامتازت المدينة بالمهاجر والقبر ، فجعل لأهلها طريق إلى تحصيل تلك الفضيلة السابقة مع إقامتهم بها ، ولعله لو لم يشرع لهم ذلك لحملتهم الرغبة في الخير على الانتقال إلى مكة ، وسكنى المدينة مطلوب ، وأما غيرهم فليس له شيء من هذا الفضل ، فكيف يتأتى له مساواة أهل مكة؟ فلم يشرع لهم ذلك ، هذا وإجماع أهل المدينة حجة عند مالك ، والقيام بهذا العدد بالمدينة باق إلى اليوم إلا أنهم يقومون بعشرين ركعة عقب العشاء ، ثم يأتون آخر الليل فيقومون بستة عشر ركعة ، فوقع لهم خلل في أمر الوتر نبّهنا عليه في كتاب «مصابيح القيام ، في شهر الصيام» وكنت قد ذكرت لهم ما يحصل به إزالة ذلك ، ففعلوه مدة ، ثم غلبت الحظوظ النفسية على بعضهم فعاد الأمر كما كان.
الحادية والثمانون : زيادة البركة بها ، على مكة المشرفة ، وقد قدمنا حديثا يشير إلى أن المدعو به لها ستة أضعاف ما بمكة من البركة ، والمصرح به في الأحاديث «ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وفي بعضها «مثل ما جعلت بمكة من البركة ومع البركة بركتين».
الثانية والثمانون : نقل عن مالك أن خبر الواحد إذا عارضه إجماع أهل المدينة قدم إجماعهم، ولهذا روي حديث خيار المجلس ثم قال : وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به ؛ لما اختص به أهل المدينة من سكناهم مهبط الوحي ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ ، فمخالفتهم تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل من ناسخ أو دليل راجح ، والمحققون على أن البقاع لا أثر لها في ذلك ، وقد بلغ ابن أبي ذئب ـ وهو من أقران مالك ـ مخالفته للحديث فأغلظ في ذلك لأن العصمة إنما تثبت في إجماع جميع الأمة ، ويؤخذ من كلام مالك اختصاص ذلك بعمل أهل ذلك العصر من أهل المدينة.
__________________
(١) أهل الدثور : أصحاب الأموال الكثيرة.