فانطلق الماء بالتابوت حتى توارى عنها ، قال : فجاء الشيطان فندّمها وأنساها ما كان الله جلّ وعزّ ألهمها إذ جعلته في التنور ، فجعل الله عليه النار بردا وسلاما ، وندمت حين جعلته في التابوت ، فقالت في نفسها : لو ذبح ابني بين يدي فكنت أكفنه وأدفنه في التراب لكان أحبّ إليّ وأسلى لهمي من أن ألقيه في هذا البحر ، فتأكله دوابّ البحر وحيتانه ، فذلك قول الله عزوجل : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً)(١) قال : جزعا خائفا ، نادما ، قالت : أذهب فأبدي به فذكرها الله ما أنساها الشيطان ، فقالت في نفسها : إن الله الذي خلّصه من النار سيحفظه في اليم ، فذلك قوله : (لِتَكُونَ)(٢)(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
قال : فاحتمل النيل التابوت حتى تعلق التابوت بشجرة مما يلي فرعون ، قال : فبينا فرعون في مجلسه إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ترفعه الأمواج أحيانا وتضعه ، ائتوني به ، قال : فابتدروه بالسفن من كلّ جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب ، فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، قال : فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها (٣) ، للذي أراد الله أن يكرمها ، فعالجته ففتحت التابوت ، فإذا هي فيه بصبي صغير في مهده ، فإذا نور بين عينيه ، وقد جعل الله رزقه في البحر في إبهامه ، وإذا إبهامه [في فيه](٤) يمصه لبنا ، وألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية ، فلم يبق منها عضو ولا شعر ولا بشر إلّا وقع فيه الاستبشار ، فذلك قوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)(٥) وقال فيما منّ عليه (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) ـ يعني ـ حين نجيتك من النار والأخرى في اليم وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت ابنة فرعون ، فلمّا أخرجوا الصبي من التابوت عمدت ابنة فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه ولعابه فلطّخت به بصرها وقبّلته وضمّته إلى صدرها ، وجعل فرعون ـ عدو الله ـ أيضا يفعل كفعلها لما يرى من سرورهم به ، فأخذته آسية ، فضمّته إلى نفسها فقالت الغواة من قوم فرعون : أيها الملك ، إنّا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل ، هو هذا ، رمي به في البحر فرقا
__________________
(١) سورة القصص ، الآية : ١٠.
(٢) غير مقروءة بالأصل ، والمثبت عن د ، و «ز» ، وم.
(٣) قال ابن كثير في البداية والنهاية ١ / ٢٧٦ وذكر المفسرون أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق ، فلم يتجاسرن على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية.
(٤) ما بين معكوفتين سقط من الأصل واستدرك للإيضاح عن د ، و «ز» ، وم.
(٥) سورة طه ، الآية : ٣٩.