خروج أبي حفص بن شيري من البلد
وتمام الأخبار عن مفارقة روح الإيمان لذلك الجسد
ولما رأى ابن شيري أن العدو قد استشرى ، وطمس على / ٤٣ / المسلمين طريق البشرى ، ولم يشك أن حامل الدّاهية تطلق (١) ، وأن المدينة بأكبر الرزايا تصبّح أو تطرق ، خرج إلى البادية بنجدة يعدّها ، ونصرة يستجدّها ، وليسعى في إفساد ما كان بين أهلها وبين النصارى من وصلة قاطعة ، وهدنة خارقة غير رافعة ، عائدة بكل قارعة. فجمعهم ووعظهم ، ومن سنة تلك الجهالة أيقظهم ، وتولّى أمرهم على ألّا يتولى أحد منهم كافرا ، وأن يكون له بقلبه ووجهه منافيا منافرا.
فأجابوه لما شرط ، وقبضوا من الرّوم ما كان انبسط ، وأجمعوا على الانقطاع من معسكرهم ، وقتلوا من كان منهم بين أظهرهم. فأوجس الرّوم منهم خيفة (٢) ، ورأوا الشدائد بهم مطيفة ، وقالوا إن احتبست المدينة ، وانقطعت عنّا الميرة المعينة ، والبرد قد خشن جانبه ، والبحر قد خشي راكبه ، وهدنة الرّعية قد انتقضت ، وأيام إرفادها وإرفاقها قد انقضت ، فنحن في قبضة الهلك ، وطريق النّجاة عويصة السلوك على الخيل والفلك.
ولم يبق إلّا أن نقاتل البلد (٣) بجملتنا ، ونصدمه بسيل حملتنا ،
__________________
(١) استعارة مكنية شبّه فيها المؤلف الشدائد وعظائم النوائب التي أصابت أهل ميورقة بسبب الحصار المفروض عليهم ، بالمرأة الحامل حين يأتيها الطّلق وهو وجع الولادة.
(٢) إشارة إلى قوله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام : (" فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ"). سورة هود ، الآية ٧٠. وإلى قوله تعالى أيضا (" فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ"). سورة الذاريات ، الآية ٢٨.
(٣) مجاز مرسل لأن القتال لا يكون للبلد بل لأهلها.