ولكن كلمته هذه انتشرت في الآفاق انتشار النار في الحطب الجزل ، وألفت لها سامعين ومنفذين ، فيستقبلها المسلمون الغيارى بالأسف حيناً ، وبالتعليق السري حيناً آخر ، وبالإنكار العلني أحياناً ، فقد أدرك الناس فداحة ما أقدموا عليه ، وأيقنوا بإفلات الأمر ، وعلموا بما أنطوت عليه نيات القوم ، فبين متحمس صابر ، وبين متأفف ناقم ، وبين متخاذل صامت ، والكل بين بين ، وكان هذا بعد فوات الأوان ، فقد عض عثمان بناجذيه على السلطان ، وفوض أمور الدولة إلى بني أمية بعامة ، وإلى مروان بن الحكم بخاصة.
وبدأ انتهاك حرمة الإسلام في مسيرة عثمان ، وظهر ما كان خافياً من تصرف ولاة الأمور ، فالمانصب تقتسم بين المؤيدين والمقربين والأغمار ، والأموال تحتجن من حلها ومشتبهها ، والأحكام يتلاعب فيها دونما الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والإرتجال في اتخاذ القرار لا يمّت إلى سيرة الشيخين من قريب أو بعيد ، والمسلمون بادئ الأمر بين هنات وهنات يقدمون رجلاً ويؤخرون آخرى والخليفه الجديد ينعم بالذهب والفضة ويجور بالاقطاع والعقار ، حتى نسي المسلمون شظف العيش وعسر الحياة ، وحتى انغمر شباب المسلمين بالبذخ والترف والإسراف ، فها هي الفتوح تتحفهم بالغنائم والجواري ، وها هي المدينة تتراقص باللهو والحياة الفارهة ، وها هم أبناء المهاجرين يتخذون الدور والقصور ، وها هم الأمويون في بلهنية من العيش والدعة ، حتى استفحل الأمر ، وضاق الإناء بما فيه ، فبدأت تباشير المحنة وطلائع الفتنة تقترب من الخليفة الذي لا يضع شيئاً ولا يرفع آخر إلا باستشارة مروان ، وقد يقضي مروان بما شاء دون علم منه ، وعليٌّ عليهالسلام يشاهد هذا كلّه ، ولا حول له ولا طول.