أكان من الرسل الأنفسية كالفطرة والعقل وسائر الجوانح والجوارح ، أم الآفاقية كالرسالات بآياتها وسائر الآيات التكوينية ، فإنها كلها هدى خالصة كالماء الخالص النازل من السماء لو أن الإنسان تبنّى فطرته بعقله وعلى ضوء هدي رسالات الوحي وسواها ، هداه الله إلى صراط مستقيم : (.. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٥ : ١٦)
ولقد أنزل الله القرآن منذ أربعة عشر قرنا ، واحتملت سيول الوديان فردية وجماعية زبدا رابيا ضده ، إطفاء لنوره وإخمادا لناره ، ولكنه ما لبث بعيدا حتى برز حجة صارمة دحضت كل مكائد السوء ومصائده خالصة عن كل تحريف وتجديف وتزييف (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(١).
(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨).
هذه والتسع التالية لها تفريعات وتفريغات للمثل المضروب في سابقتها السابغة ، المقتسمة كافة المكلفين إلى زبدة وزبدة ، فآية ونصفين للزبدة
__________________
(١) نور الثقلين ٢ : ٤٩٢ ح ٧٥ في الاحتجاج للطبرسي عن امير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه : وقد بين الله تعالى قصص المغيرين فضرب مثلهم بقوله (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) فالزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل ويبطل ويتلاشى عند التحصيل ، والذي ينفع الناس منه فالتنزيل الحقيقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والقلوب تقبله ، والأرض في هذا الموقع فهي محل العلم وقراره ..».