قشور الهوى وغشاواتها الغاشية لنور العقل والفطرة هي التي تحجبها عن البصيرة إلى العمى ، وعن الهدى إلى الردى ، وكما الأغشية الحاجبة للبصر تغشاه عن إدراك المبصر ، كذلك البصيرة المحجوبة بغشاواتها مغشية عن إدراك الحقائق رغم بهورها وظهورها ، فتصبح بذلك العقول معقولة بقيود الهوى ، والقلوب مقلوبة عن نور الهدى ، فصاحبها ـ إذا ـ أعمى في بصيرته ، مظلم في سريرته ، فهو بدل أن يعلم انما أنزل إليك من ربك الحق ، يجهل حقه أو يدعى العلم بباطله ، ويخوض في آياته خوض المبطلين المضللين ، فما ألطفه تعبيرا تقابل الأعمى بمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق ، أسلوب بارع منقطع النظير في هذا الكتاب البشير النذير ، في لمس القلوب وتجسيم الفروق بين السوي منها والمقلوب ، فالناس أمام هذه الحقيقة الكبرى فريقان ، مبصرون فهم يعلمون ، وعمي فهم لا يعلمون ، فإنهم في عمى البصيرة فلا يبصرون ، مهما قويت أبصارهم فيما يشتهون ، عائشون في انطماس المدارك واستغلاق القلوب وانطفاء قبسات المعرفة الروحية ، وانفصالها عن مصدر الإشعاع.
فالذين استجابوا لربهم لهم حسنى الحياة المعرفية إذ يعلمون أنما أنزل إليك من ربك الحق ، وحينما يستقر الحق في عقولهم وقلوبهم تصبح ألبابا فوق ما كانت ، ناظرة بنضارة الحق ، مبصرة ببصيرة اللب.
للإنسان فطرة وعقل وقلب ، ولكلّ لب خالص عن غشاوات ، ومزيج أجيج من غشاوات الجهالات والشهوات ، والسالك سبيل الحق لا بد له من لب في هذه السبيل حتى يبصر الحق فيتبعه ، ويبصر الباطل فيجتنبه ، فإنما المتذكرون للحق هم أولوا الألباب : الذين لهم ألباب العقول والقلوب ، مدركة متذكرة متفكرة.
(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ)(٢٠).