«ترون البحر قد يبس من فرقي فصدقوه لما رأوا ذلك» (١).
وبطبيعة الحال لم يكن غرقهم أجمعين الا بعد اقتحامهم في البحر أجمعين ، نزولا الى الطريق اليبس ، إذ لو رجع البحر حين نزلوا الى ما كان لم يلحق اخرهم أولهم ، وانما مكروا ببقاء الطريق اليبس حتى آخر نفر منهم ثم أطبق عليهم دون إبقاء ، بعد ما نجى موسى ومن معه : (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) ـ ف «ثم» هنا تؤخر غرقهم عن نجاة موسى ومن معه.
ويا لها من معركة صاخبة بين كتلتي الايمان والكفر ، فالأولون يملكون كافة الطاقات الروحية ، والآخرون لهم طاقات مادية ، فلم تكن الطاقتان متكافئتين في الواقع المادي ، فلا سبيل الى خوض المعركة ماديا حيث تكلّ الطاقة الروحية أمام من لا أرواح لهم إنسانية.
فهنالك تتولى يد القدرة الإلهية إدارة المعركة ، بعد ان اكتملت حقيقة الايمان والتصبر عليه في نفوس نفيسة لا تملك قوة سواها ، فترفع راية الحق مرفرفة عالية ، وتنكّس راية الباطل مخففة خاوية ، وليعلم الذين آمنوا ان الله هو ناصرهم في حاضرهم كما في مستقبلهم : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فقد ناسب الجو هنا التذكير بهامة النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، وما واجهوها بها من تخلّف ونكران وكفران لأنعم الله ، ما يوطئ الرؤس لاصقة بالأرض تخجلا لو كانت لهم رؤس انسانية! :
__________________
(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨٥ في كتاب سعد السعود عن ابن عباس ان جبرئيل قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ـ ونقل حديثا طويلا في حال فرعون وقومه وفيه «وانما قال لقومه (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) حين انتهى فرآه قد يبست فيه الطريق فقال لقومه : ترون البحر ..