ولقد قلّب هنا امر كلمة التوحيد : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) بمقلوبها (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي : لا إله إلّا أنا!
وقد يعني ب «ما علمت ..» جهله ، ولذلك يأمر ببناء صرح ويقول (إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) فلو كان يعني ب «علمت» عدم إله غيره بصورة قاطعة لما صحت حيلته الثانية والثالثة ، اللهم إلّا تماشيا وتنازلا من علمه المحيط المدّعى ، وهو بدون هذه الدعوى الخاوية ليست حيلته الأولى حجة على السلب بل هي سلبه للحجة ، وقد يحتج بسلبها لعدم ثبوت إله غيره ، فليفتش عنه في السماوات بأسبابها بعد الأرض ، ولو كان لبان! ثم ولكي يؤكد سلبيته الماكرة يأمر هامان ببناء صرح رفيع يصعد عليه لعله يطلع إلى إله موسى ، فيتأكد انه ليس في السماء كما لم يجده في الأرض ، وكأن إله موسى ساكن السماء أو ساكن الأرض!. و (ما عَلِمْتُ لَكُمْ) قالة مكرورة على ألسنة الماديين الناكرين لوجود الله كشريطة تدار ، إننا ما وجدناه بأيّ من حواسنا ، فليس ـ إذن ـ كائنا ، متجاهلين عن ان الكائنات لا تنحصر بالإدراكات الحسية ، وحتى لو انحصرت بها فلا يحيط بها أحد علما حتى يصح القول : ما لا نجده فهو غير موجود! أجل يصلح القول : ما علمت فليس كائنا ، للذي يحيط علما بكل شيء وهو الله تعالى شانه العزيز : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٠ : ١٨). هناك كيد أوّل «ما علمت ..» وكيد ثان (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ ..) وثالث (إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) كلها ادعاءات جوفاء خواء يصارح بها على ملإه ولا يخاف ردا عليه ولا نكيرا.
وقد نلمس عمق الحمق الفرعوني من كيده الأوسط وهو بناء صرح ، وقد كان يكفيه ان يصعد أعلى جبل في مصر ، وهو دون شك أرفع مما يبنيه