وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه الأوّل ، فقطعوا يده اليسرى ، فاحتضن المصحف ، ودماؤه تجري عليه ، وناداهم إلى العمل به ، فقتلوه ، قطّعوه إربا إربا ، فقال الإمام : «والله ما كنت في شك ولا لبس من ظلالة القوم وباطلهم ، ولكن أحببت أن يتبيّن لكم ذلك»)(١).
أحبّ الإمام أن يبيّن للنّاس وللأجيال أنّه ومن اتّبعه على حقّ وهداية ، وأنّ من حاربه وعانده على باطل وضلالة ، أراد أن يقيم الدّليل المحسوس الملموس على أنّه إمام العدل والرّحمة ، وخصومه أئمّة الظّلم والجور : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢).
وهكذا فعل ولده الحسين يوم الطّفّ ، فما أن كانت صبيحة اليوم العاشر من المحرّم حتّى لبس عمامة جدّه رسول الله ورداءه ، وتقلّد سيف جدّه ، وركب ناقة أو فرسه المعروفة ، ووضع المصحف أمامه ، واتّجه إلى الّذين تجمعوا على قتله ، وشرّعوا السّيوف والرّماح في وجهه ، ورفع يديه إلى السّماء ، وقال على مسمع من الجميع :
«أللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصّديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرجته عنّي وكشفته وكفيته؟! فأنت ولي كلّ نعمة وصاحب كلّ حسنة
__________________
(١) انظر ، الفتوح لابن أعثم : ١ / ٤٦٥ ، ابن حزم في الجمهرة : ١٦٢ ، الأغاني : ١٠ / ٢٠٣ ، شرح النّهج لابن أبي الحديد : ٩ / ١١٢ تحقيق محمّد أبو الفضل ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٥١٧ و ، ٥ / ٢٠٦ و ٢١٦ ، و : ٣ / ٥٢٢ ، اسد الغابة : ٣ / ٣٠٨ ، نسب قريش : ١٩٣ ، مروج الذّهب : ٢ / ٩ و ١٣.
(٢) الأنفال : ٤٢.