والرّحم» (١) ، وترك ابن العاصّ بعد أن أصبحت حياته في يده ، ولو قتله لدبّ الذّعر في جيش معاوية ، وتمزّق شرّ ممزّق ، وعفا يوم الجمل عن مروان بن الحكم ، وهو ألد الخصوم وأخطرهم ، وسقى أهل الشّام الماء بعد أن منعوه منه (٢).
وقال قائل جاهل : أنّ الإمام لا يعرف السّياسة ، لأنّه لو منع الماء عن أهل الشّام ، أو قتل مروان ، وابن العاصّ لضمن النّصر بأيسر الأسباب؟ ، ويصحّ هذا القول في حقّ الّذين تسيّرهم منافعهم الشّخصيّة ، ويستبيحون كل شيء في سبيلها ، أمّا في حقّ الإمام الّذي يرى الدّنيا بكاملها أحقر من ورقة في فم جرادة تقضمها ، وأهون عليه من رماد أذرته الرّياح في يوم عاصف» (٣) ، أمّا في حقّ الإمام الّذي يرى الموت أيسر عليه من شرب الماء على الظّمأ ، أمّا الّذي يرى
__________________
(١) انظر ، الطّبري في تأريخه : ٢ / ١٣١ ، السّيرة الحلبية : ٢ / ٢٢٤ ، والمعارف لابن قتيبة : ١٦١ ، تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس : ١٤٧.
(٢) فكّرت مليّا في صفح الإمام ، وبقيت اللّيالي والأيّام أبحث عن تفسير تركن إليه نفسي ، فلم أجد وجها إلّا أنّه مخلوق مستقل قائم بنفسه ، لا يشبه أحدا ، ولا يشبهه أحد من النّاس لا في الماضي ولا في الحاضر والمستقبل ، فهو بطبعه ومزاجه يصفح عن قاتله ، وقاتل أولاده دون أي تكلّف ، كما يصفح عمّن يسيء إليه بكلمة صغيرة نابية سواء بسواء ، ولا أدل على ذلك من وصيته بقاتله ابن ملجم ، وقوله : وإن تعفوا : أقرب إلى التّقوى. (منه قدسسره).
انظر ، تأريخ الطّبري : ٣ / ٥٦٩ ، وقعة صفّين : ١٦١ ، الأخبار الطّوال : ١٦٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٣١٨ و : ٤ / ١٣.
مال جيش الإمام على أعدائهم ، واضطروهم إلى ترك الشّريعة ، فسيطر عليها الإمام ، وألحّ عليه جماعة من أصحابه أن يمنع معاوية من الماء كما منعه ، فأبى ، وقال : «لا أفعل ما فعله الجاهلون!! سنعرض عليهم كتاب الله ، وندعوهم إلى الهدى ، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السّيف». انظر ، منهاج البراعة : ٤ / ٣١٠ ، شرح المختار : ٤٦ ، وقعة صفّين : ٥٣٩ ، الفصول المهمة لابن الصّباغ المالكي ، بتحقيقنا : ١ / ٤٤٧ و ٤٩٧ ، و «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة» : ٤ / ٩٧٣.
(٣) انظر ، نهج البلاغة : الخطبة (٢٢٤).