بساعة النّزع وتسليم الرّوح خير من الدّعابة ، والبكاء أولى من الإبتسام ، وما كان عبد الرّحمن يجهل بريرا. كيف وقد تخرجا من مدرسة واحدة على معلم واحد ، على سيّد الوصيّين وإمام المتّقين الّذي كان يلقّنهم دروس الكمال بأفعاله قبل أقواله ، ويعلمهم أنّ الإستخفاف بصغير الذّنوب من أكبر الذّنوب ، لأنّه استخفاف بالله ، وشرائعه ، وقوانيه!.
لم تكن تلك الدّروس الّتي تلقّاها برير وعبد الرّحمن عن المعلم الأعظم ألفاظا تذروها الرّياح ، وأصواتا لا تتجاوز الآذان ، بل هي بذور تغرس في النّفس فتحيا وتنمو إلى أن تصبح غرائز وملكات تحرك أربابها ، وتقودهم إلى مرضاة الله ورضوانه.
لقد عرف عبد الرّحمن بريرا كهلا وما عرفه شابّا ، والشّباب مظنّة الوقوع في الخطايا ، فنفى برير الطّيب الّذي لم يلغ في حياته كلّها بألفاظ اللهو والعبث ، نفى عن نفسه هذه المظنّة بحجّة لا تعادلها حجّة في القوّة والصّدق ـ والله لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّا ولا كهلا ـ وأي حجّة أقوى في الدّلالة ، وأصدق في الشّهادة على سير الإنسان وسلوكه من شهادة قومه وعشيرته الّذين صاحبوه كبيرا وصغيرا ، وخالطوه غنيّا وفقيرا ، ورؤوا أفعاله ، وسمعوا أقواله في جميع أطواره وأدواره في سرّه وعلانيته ، ورضاه وغضبه ، وحزنه وسروره ، ونعيمه وبؤسه ، لقد تمكن برير من نفسه وتغلب على شهواته في دور شبابه ، دور طفولة العقل ، والإستسلام إلى الملذات والأهواء ، فهو كامل في شبابه ، كامل في كهولته ، لم يرتكب منكرا ولم يقترف سيئة لا أوّلا ولا آخرا. وما أحبّ باطلا ألبتة ، وهؤلاء قومه وعارفوه ، يشهد كبيرهم وصغيرهم أنّه منذ صغره اهتدى إلى