(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١)
____________________________________
حكمة فى تلك المشيئة لما أن الذى عليه يدور فلك التكليف وإليه ينسحب الثواب والعقاب إنما هو الاختيار الجزئى الذى عليه يترتب الأعمال التى بها نيط الجزاء هذا هو الذى يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام وقد فسر كون قصد السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه على نهج الاستقامة وإيثار حرف الاستعلاء على أداة الانتهاء لتأكيد الاستقامة على وجه تمثيلى من غير أن يكون هناك استعلاء لشىء عليه سبحانه وتعالى عنه علوا كبيرا كما فى قوله تعالى (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) فالقصد مصدر بمعنى الفاعل والمراد بالسبيل الجنس كما مر وقوله تعالى (وَمِنْها جائِرٌ) معطوف على الجملة الأولى والمعنى أن قصد السبيل واصل إليه تعالى بالاستقامة وبعضها منحرف عنه ولو شاء لهداكم جميعا إلى الأول وأنت خبير بأن هذا حق فى نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبة لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيد وبين ما لحق ولما بين الطريق السمعى للتوحيد على وجه إجمالى وفصل بعض أدلته المتعلقة بأحوال الحيوانات وعقب ذلك ببيان السر الداعى إليه بعثا للمخاطبين على التأمل فيما سبق وحثا على حسن التلقى لما لحق أتبع ذلك ذكر ما يدل عليه من أحوال النبات فقيل (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) بقدرته القاهرة (مِنَ السَّماءِ) أى من السحاب أو من* جانب السماء (السَّماءِ) أى نوعا منه وهو المطر وتأخره عن المجرور لما مر مرارا من أن المقصود هو الإخبار بأنه أنزل من السماء شيئا هو الماء لا أنه أنزله من السماء والسر فيه ما سلف من أن عند تأخير ما حقه* التقديم يبقى الذهن مترقبا له مشتاقا إليه فيتمكن لديه عند وروده عليه فضل تمكن (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) أى ما تشربونه وهو إما مرتفع بالظرف الأول أو مبتدأ وهو خبره والجملة صفة لماء والظرف الثانى نصب على الحالية من شراب ومن تبعيضية وليس فى تقديمه إيهام حصر المشروب فيه حتى يفتقر إلى الاعتذار بأنه لا بأس به لأن مياه العيون والأبيار منه لقوله تعالى (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) وقوله تعالى (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) وقيل الظرف الأول متعلق بأنزل والثانى خبر لشراب والجملة صفة لماء وأنت خبير بأن ما فيه من توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثانى منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة نظم* التنزيل الجليل (وَمِنْهُ شَجَرٌ) من ابتدائية أى ومنه يحصل شجر ترعاه المواشى والمراد به ما ينبت من الأرض سواء كان له ساق أو لا أو تبعيضية مجازا لأنه لما كان سقيه من الماء جعل كأنه منه كقوله أسنمة الآبال فى ربابه يعنى به المطر الذى ينبت به الكلأ الذى تأكله الإبل فتسمن أسنمتها وفى حديث عكرمة لا تأكلوا* ثمن الشجر فإنه سحت يعنى الكلأ (فِيهِ تُسِيمُونَ) ترعون من سامت الماشية وأسامها صاحبها وأصلها السومة وهى العلامة لأنها تؤثر بالرعى علامات فى الأرض (يُنْبِتُ) أى الله عزوجل وقرىء بالنون (لَكُمْ بِهِ) بما أنزل من السماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض