(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨)
____________________________________
الأرض لعدم دخل ذلك العنوان فى التمثيل كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف بل له إخلال بذلك (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة (يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أى مثل الحق ومثل الباطل والحذف للإنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل وبعد تحقيق التمثيل مع الإيماء فى تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوه وآنقها حسبما أشير إليه فى مواقعها بين عاقبة كل من الممثلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاء تتمة للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحق الثابت والردع عن الباطل الزائد فقيل (فَأَمَّا الزَّبَدُ) من كل منهما (فَيَذْهَبُ جُفاءً) أى مرميا به وقرىء جفالا والمعنى* واحد (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) منهما كالماء الصافى والفلز الخالص (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أما الماء فيثبت* بعضه فى منافعه ويسلك بعضه فى عروق الأرض إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلز فيصاغ من بعضه أنواع الحلى ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث فى الأرض ما هو أعم من المكث فى نفسها ومن البقاء فى أيدى المتقلبين فيها وتغيير ترتيب اللف الواقع فى الفذلكة الموافق للترتيب الواقع فى التمثيل لمراعاة الملاءمة بين حالتى الذهاب والبقاء وبين ذكريهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقى بعد ذهاب الذاهب لا قبله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ) أى مثل ذلك الضرب العجيب* يضرب (الْأَمْثالَ) فى كل باب إظهارا لكمال اللطف والعناية فى الإرشاد والهداية وفيه تفخيم لشأن هذا* التمثيل وتأكيد لقوله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا وبعد ما بين شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع فى بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقيل (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التى من جملتها ضرب الأمثال فإنه ألطف ذريعة إلى تفهيم القلوب الغبية وأقوى وسيلة إلى تسخير النفوس الأبية كيف لا وهو تصوير للمعقول بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المعانى فى هيئة المأنوس فأى دعوة أولى منه بالاستجابة والقبول (الْحُسْنى) أى المثوبة الحسنى وهى الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) * وعاندوا الحق الجلى (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من أصناف الأموال (جَمِيعاً) بحيث لم يشذ منه شاذ فى* أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) أى بما فى الأرض ومثله معه* جميعا ليتخلصوا عما بهم وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان فالموصول مبتدأ والشرطية كما هى خبره لكن لا على أنها وضعت موضع السوءى فوقعت فى مقابلة الحسنى الواقعة فى القرينة الأولى لمراعاة حسن المقابلة فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له السوءى كما يوهم فإن الشرطية وإن دلت على كمال سوء حالهم لكها بمعزل من القيام مقام لفظ السوءى مصحوبا باللام الداخلة على الموصول أو ضميره