وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) يقولون : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبا أو محقا فيه ، فإنا لم نسمع به قبلك (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي ربكم الذي لا إله غيره ، وهو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن ، وهو الخالق لجميع الأشياء (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣)
ثم أقسم الخليل قسما أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم ، أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين ، أي إلى عيدهم ، وكان لهم عيد يخرجون إليه ، قال السدي : لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه : يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض ، وقال : إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون : مه (١) ، فيقول : إني سقيم ، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) فسمعه أولئك (٢). وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه ، فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال : إني سقيم ، وقد كان بالأمس ، قال : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) فسمعه ناس منهم.
وقوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي حطاما كسرها كلها ، إلا كبيرا لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم ، كما قال : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات : ٩٣]. وقوله (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه ، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها.
(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي في صنيعه هذا ، (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم : سمعنا فتى أي شابا ، يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا شابا ولا أوتي
__________________
(١) مه : أي ما بك؟.
(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٣٧.