وفي هذه الآيات يلاحظ الحثّ على إبراز وإظهار البراءة القلبية والنفسية على مستوى العلاقة الخارجية ، نعم في الآية اللاحقة : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (١) ، وهذا ليس تفصيل في المودّة بل في تجويز البرّ والمعاملة الحسنة مع غير المعادين منهم ، وإلّا فالموادّة لا استثناء فيها ، بخلاف المعادين منهم فاللازم إظهار الشدّة معهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)(٢).
وقال تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٣).
وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٤) ، والولجة ـ بالتحريك ـ هي المكان الذي يستتر فيه المار عن المطر وغيره ، والولوج هو دخول شيء في شيء باستتار الأوّل في الثاني ، فالوليجة هي : الجماعة التي يحتمي بها الشخص وينضمّ إليها ويتحالف معها.
ولا يخفى تعدّد ألسن البراءة والتبرّي : الأوّل : تحريم الموادّة ، والثاني : تحريم وليجة غير المؤمنين مطلقا ، والثالث : وجوب التبرّي من الأعداء في الدين ، والرابع : حرمة الاستغفار لهم وهو نحو من طلب الرحمة الإلهية لهم.
وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ
__________________
(١). الممتحنة / ٨.
(٢). الفتح / ٢٩.
(٣). التوبة (البراءة) / ١١٤.
(٤). التوبة (البراءة) / ١٦.