إحداث سُنّة جماعة الخلافة لمقولة اجتهاده :
لقد عنون الجصّاص (ت ٣٧٠ ه ـ) في كتابه الفصول باباً ب ـ : "القول في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هل كان يسنّ من طريق الاجتهاد؟ " ، وهذا العنوان بنفسه يحمل في مضمونه باب جواز الردّ والمخالفة لسنن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إنكار هداية الوحي فيها ..
قال : اختلف الناس في ذلك ; فقال قائلون : لم يكن النبيّ (صلىاللهعليهوآلهوسلم) يحكم في شيء من أمر الدين إلاّ من طريق الوحي; لقوله تعالى : (وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) (١)
وقال آخرون : جائز أن يكون النبيّ (عليهالسلام) قد جُعل له أن يقول من طريق الاجتهاد في ما لا نصّ فيه.
وقال آخرون : جائز أن يكون بعض سُنّته وحياً ، وبعضها إلهاماً ، وشيء يُلقى في روعه ، كما قال (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : ((إن ّ الروح الأمين نفث في روعي : أنّ نفساً لن تموت حتّى تستوفي رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب)).
ويجوز أن يكون بعض ما يقوله نظراً واستدلالا ، وتردّ الحوادث التي لا نصّ فيها إلى نظائرها من النصوص باجتهاد الرأي ..
وهذا هو الصحيح عندنا.
والدليل على أنّه قد كان جُعل له أن يقول من طريق الاجتهاد : قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٢) ، عمومه يقتضي جواز الاستنباط من جماعة المردود إليهم ، وفيهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويدلّ عليه أيضاً : قوله تعالى :(فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ) (٣) والنبيّ من أجلّهم.
ويدلّ عليه : ما حكى الله تعالى من قصّة داود وسليمان (عليهما السلام ، ثمّ قال : (فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَكُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَعِلْماً) (٤) ، وظاهره يدلّ على أنّ حكمهما كان
__________________
(١) سورة النجم ٣ : ٥٣ ، ٤.
(٢) سورة النساء ٨٣ : ٤.
(٣) سورة الحشر ٢ : ٥٩.
(٤) سورة الأنبياء ٧٩ : ٢١.