عن الطبري أنّ النبيّ (صلىاللهعليهوآلهوسلم) قال للناس بالتخيير في الأسرى بين الفداء والقتل ، بعد نزول جبرئيل عليه بذلك ـ بقوله : إذا كان التخيير ، فكيف وقع التوبيخ بقوله : (لَمَسَّكُمْ)؟ وأجاب : أنّ التوبيخ وقع أوّلا لحرصهم على أخذ الفداء ثمّ وقع التخيير بعد ذلك(١).
أقول :
مضافاً إلى ما سيأتي من بيان التحريف في هذه الروايات في عموم الأحداث في هذه الواقعة ، كما هو ديدنهم في أسباب النزول :
أوّلاً : ما ذكره القرطبي متدافع مع ظاهر الآيات ، ومع كلامه في مواضع من تفسيرها; فإنّ ظاهر مفاد الآية : أنّ الحكم تعييني لا تخييري ، أي أنّ الحرمة لأخذ الأُسارى واستبقائهم متعيّنة ، ولسان التوبيخ لسان تهديد بِعقوبة ، كما هو مفاد قوله تعالى : (لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) ؛ كيف يجري استحقاق العقوبة مع الحرص على خصلة من التخيير؟!
ثانيا : اعترف القرطبي في بداية تفسيره للآية : أنّ قول أكثر المفسّرين عندهم ولا يصحّ غيره : أنّ هذه الآية نزلت عتاباً من الله عزّ وجلّ لأصحاب نبيّه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ، والمعنى : ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبيّ (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أسرى قبل الإثخان ، ولهم هذا الإخبار بقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا) ـ أي أنّ الخطاب للأصحاب لا للنبيّ (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ـ والنبيّ (صلىاللهعليهوآلهوسلم) لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ، ولا أراد قطّ عرض الدنيا ، وإنّما فعله جمهور مباشري الحرب ، فالتوبيخ والعتاب إنّما كان متوجّهاً بسبب مَنْ أشار على النبيّ (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بأخذ الفدية (٢).
وهذا التسالم عندهم ، الذي لا يصحّ غيره ، متناقض مع مضمون تلك الروايات التي روى غالبها عمر ، من أنّ رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) كان هواه في الفداء ، وأنّ العذاب لو نزل لَما نجا منه إلاّ عمر ، ولشمل رسول الله والعياذ بالله تعالى من هذا القول ، وفي ذلك بيان لفوقيّة عصمة عمر على عصمة الرسول (صلىاللهعليهوآلهوسلم).
ثالثاً : إذا كان العتاب ـ المتسالم عليه عندهم ـ هو للصحابة الّذين حرصوا على
__________________
(١) الجامع لأحكام القرآن ٤٨/٨.
(٢) الجامع لأحكام القرآن ٤٦/٨ ٤٥.