مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).
ولأجل إدراك معنى ومفاد الآيات الشريفة لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الآية الثانية المذكورة آنفا من سورة النحل قد سبقتها الآيات التالية : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ* لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ* ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا ...) (٢).
ففي هذه الآيات المكّية دلالة على ظهور النفاق قبل الهجرة ، وأنّ هناك من المسلمين من يكفر بالله بلسانه بعد إسلامه مع انشراح صدره بذلك من دون إكراه ، بل حبّا في الحياة الدنيوية الوادعة ، وأولئك مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وهم في غفلة عن الحقّ وهم الخاسرون ، وقيل : إنّها نزلت في عبد الله بن أبي سرح (٣) ، من بني عامر بن لؤي ، لكنّ ظاهر لفظ الجمع في الآيات يعطي أنّها نزلت في مجموعة وفئة تطمع في الأغراض الدنيوية.
هذا ، مضافا إلى ما تشير إليه سورة المدّثّر ، المكّية ـ رابع سورة نزلت ـ من وجود فئة الّذين في قلوبهم مرض في أوائل البعثة في صفوف المسلمين ، وتشير بقية السور إلى ملاحقة هذه الفئة وأهدافها وارتباطاتها بكلّ من الكفّار وأهل الكتاب ، فمن البيّن أنّ (لِلَّذِينَ هاجَرُوا) في هذه السورة لا يراد به كلّ مكّي أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ؛ كيف؟! وهي تقسّم المسلمين إلى فئة صالحة ، وأخرى طالحة تنشرح بالكفر صدرا بعد الإيمان ، حبّا في الدنيا ، مطبوع على قلوبها ، وكذلك سورة المدّثّر السابقة لها نزولا.
بل إنّ في الآية الأولى المذكورة من هذه السورة تقييد الهجرة بكونها في الله ، لا
__________________
(١). التوبة / ١١٧.
(٢). النحل / ١٠٦ ـ ١١٠.
(٣). انظر مثلا : تفسير القرطبي ١٠ / ١٢٦ ، تفسير الدرّ المنثور ٥ / ١٧١.