ذهابا إلى أن الأعمال أعراض لا يمكن وزنها ، فكيف إذا زالت وتلاشت؟ بل المراد به العدل الثابت في كل شيء ، ولذا ذكره بلفظ الجمع ، وإلا فالميزان المشهور واحد. وقيل : هو الإدراك. فميزان الألوان البصر ، والأصوات السمع ، والطعوم الذوق ، وكذا سائر الحواس. وميزان المعقولات العلم والعقل.
وأجيب بأنه يوزن صحائف الأعمال. وقيل : بل تجعل الحسنات أجساما نورانية ، والسيئات أجساما ظلمانية ، وأما لفظ الجمع فللاستعظام ، وقيل : لكل مكلف ميزان. وإنما الميزان الكبير واحد إظهارا لجلالة الأمر وعظمة المقام ، ومنها الحوض. قال تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١).
وفي الحديث : «حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه أكثر من نجوم السماء ، من شرب منها فلا يظمأ أبدا».
وقال الصحابة له (عليهالسلام) أين نطلبك يوم الحشر؟ فقال : على الصراط. فإن لم تجدوا فعلى الميزان. فإن لم تجدوا فعلى الحوض.
قال : المبحث الثامن ـ
(ذهب المحققون من الحكماء إلى أن ما ورد في الشرع من تفاصيل أحوال الجنة والنار ، والثواب والعقاب تمثيل وتصوير لمراتب النفوس وأحوالها في السعادة والشقاوة ولذاتها وآلامها ، فإنها لا تفنى ، بل تبقى ملتذة بكمالاتها (٢) فذلك ثوابها وجنانها ، أو متألمة بنقصانها ، فذلك عقابها ونيرانها ، وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم ، لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بالمفارقة وليست شقاوتها سرمدية (٣) البتة ، بل قد تتدرج من درجات الشقاوة إلى درجات السعادة. وإنما الشقاوة السرمدية هي الجهل المركب الراسخ ، والشرارة المضادة للملكة الفاضلة. وتفصيل ذلك أن فوات كمال النفس يكون إما لأمر
__________________
(١) سورة الكوثر آية رقم ١.
(٢) في (ب) بأحوالها بدلا من كمالاتها.
(٣) السرمدي : ما لا أول له ولا آخر.