عاش على الإيمان والطاعة مائة سنة. ولم يفرقوا بين أن تكون الكبيرة واحدة أو كثيرة ، واقعة قبل الطاعات أو بعدها أو بينها. وجعلوا عدم القطع بالعقاب ، وتفويض الأمر إلى أن الله تعالى يغفر إن شاء ويعذب إن شاء على ما هو مذهب أهل الحق إرجاء. بمعنى أنه تأخير للأمر وعدم جزم بالعقاب أو الثواب. وبهذا الاعتبار جعل أبو حنيفة من المرجئة. وقد قيل له: من أين أخذت الإرجاء؟
فقال : من الملائكة (عليهمالسلام). (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا)(١)
وإنما المرجئة الخالصة الباطلة هم الذين يحكمون بأن صاحب الكبيرة لا يعذب أصلا ، وإنما العذاب والنار للكفار ، وهذا تفريط. كما أن قول الوعيدية إفراط. والتفويض (٢) إلى الله تعالى وسط بينهما كالكسب بين الجبر والقدر. ونحن نقول : ينبغي أن يكون ما اشتهر منهم مذهب بعضهم. والمختار خلافه ، لأن مذهب الجبائي وأبي هاشم ، وكثير من المحققين ـ وهو اختيار المتأخرين ـ أن الكبائر إنما تسقط الطاعات ، وتوجب دخول النار إذا زاد عقابها على ثوابها ، والعلم بذلك مفوض إلى الله تعالى. فمن خلط الحسنات بالسيئات ولم يعلم عليه غلبة الأوزار ، لم يحكم بدخوله النار. بل إذا زاد الثواب يحكم بأنه لا يدخل النار أصلا. واضطربوا فيما إذا تساوى الثواب والعقاب ، وصرحوا بأن هذا بحسب السمع. وأما بحسب العقل فيجوز العفو عن الكبائر كلها ، إلا عند الكعبي. وذكر إمام الحرمين في الإرشاد (٣) أن مذهب البصريين وبعض البغداديين جواز العفو عقلا وشرعا. ولقد مننا بهذا على المعتزلة أن ادركوا ، ونهجنا لهم منهاجا أن سلكوا. وإلا فمن لهم بعصمة تنجي أو توبة ترجى.
قال : المبحث الثالث عشر ـ
__________________
(١) سورة البقرة آية رقم ٣٢.
(٢) التفويض قيل : هو ترك اختيار ما فيه الخطر إلى اختيار المدبر العالم بمصلحة الخلق ، وقيل : هو ترك الطمع ، والأول أنسب قال الله سبحانه وتعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) الآية ثم قال تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) الآية وقال عليهالسلام لابن مسعود : ليقل همك ما قدر أتاك وما لم يقدر لا يأتيك ، وقوله ليقل همك أمر له بالتفويض. والله أعلم.
(٣) قام بتحقيقه الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى ، والأستاذ الدكتور علي عبد المنعم عبد الحميد.