وثانيا : أن كلامنا فيما حصل الجزم بأنه خارق للعادة ، وأن المتحدين عجزوا عن معارضته ، مع كونهم أحق بها إن أمكنت لكثرة اشتغالهم بما يناسب ذلك ، وكمالهم فيه ، وفرط اهتمامهم بالمعارضة ، وتوفر دواعيهم. ولهذا كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على أهل زمانه ، وتهالكوا عليه وتفاخروا به ، كالسحر في زمن موسى (عليهالسلام) ، والطب في زمن عيسى ، والموسيقى في زمن داود ، والفصاحة في زمن محمد (صلىاللهعليهوسلم).
وثالثا : أنه لا خفاء ولا خلاف في ترتيب الغايات والآثار على بعض أفعاله وإن لم يجعلها أغراضا له على أنا لا نقول إنه فعل المعجزة لغرض التصديق ، بل إنها دلت على تصديق من الله تعالى قائم بذاته ، سواء جعل من جنس العلم أو كلام النفس ، أو غيرهما.
ورابعا : أن ظهور المعجزة على يد الكاذب لأي غرض فرض وإن جاز عقلا بناء على شمول قدرة الله ، فهو ممتنع عادة معلوم الانتفاء قطعا ، كما هو حكم سائر العاديات ، وهذا ما قال القاضي : إن اقتران ظهور المعجزة بالصدق أحد العاديات ، فإذا جوزنا انحرافها عن مجراها ، جاز إخلاء المعجزة عن اعتقاد الصدق ، وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب ، وإما بدون ذلك فلا ، لاستحالة العلم بصدق الكاذب ، ومنا من قال باستحالته عقلا ، فالشيخ لافضائه إلى التعجيز عن إقامة الدلالة على صدق دعوى الرسالة ، والإمام وكثير من المتكلمين ، لأن الصدق مدلول بها لازم بمنزلة العلم لإتقان الفعل ، فلو ظهرت من الكاذب ، لزم كونه صادقا كاذبا ، وهو محال ، والماتريدية لإيجابه التسوية بين الصادق والكاذب ، وعدم التفرقة بين النبي والمتنبي ، وهو سفه لا يليق بالحكيم.
وخامسا : أن مجرد إظهار المعجزة على يده يفيدنا العلم بصدقة ، وبتصديق الله إياه من غير افتقار إلى اعتبار كلام وإخبار ، ومن هنا يصح التمسك بخبر النبي في إثبات الكلام ، وامتناع الكذب والنقص على ما مر ، وإلى هذا يشير ما قال إمام الحرمين ، أنا نجعل إظهار المعجزة تصديقا بمنزلة أن يقول : جعلته رسولا ، وأنشأت الرسالة فيه كقولك : جعلتك وكيلا ، واستنبتك بشأن من غير قصد إلى