والثاني ـ أن التصديق الإيماني المنوط به النجاة أمر قلبي خفي له معارضات خفية كثيرة من الهوى والشيطان والخذلان بالمرء ، وإن كان جازما بحصوله لكن لا يأمن ان يشوبه شيء من منافيات النجاة سيما عند ملاحظة تفاصيل الأوامر والنواهي الصعبة المخالفة للهوى ، والمستلذات من غير علم له بذلك. فذلك يفوض حصوله إلى مشيئة الله. وهذا قريب لو لا مخالفته لما يدعيه القوم من الإجماع ، ولما ذكر في الفتاوى من الروايات.
الثالث ـ وعليه التعويل ، ما قال إمام الحرمين (١) إن الإيمان ثابت في الحال قطعا من غير شك فيه. لكن الإيمان الذي هو علم الفوز ، وآية النجاة إيمان الموافاة ، فاعتنى السلف به ، وقرنوه بالمشيئة ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز ، ومعنى الموافاة الإتيان والوصول إلى آخر الحياة وأول منازل الآخرة ، ولا خفاء في أن الإيمان المنجي والكفر المهلك ما يكون في تلك الحال ، وإن كان مسبوقا بالضد ، لا ما ثبت أولا وتغير إلى الضد. فلهذا يرى الكثير من الأشاعرة يبتون القول بأن العبرة بإيمان الموافاة وسعادتها. بمعنى أن ذلك هو المنجي ، لا بمعنى أن إيمان الحال ليس بإيمان وكفره ليس بكفر ، وكذا السعادة والشقاوة والولاية والعداوة ، وعلى هذا يسقط عنهم ما يقال إنه اذا اتصف بالإيمان على الحقيقة ، كان مؤمنا حقا ، ولا يصح أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، كما لا يصح أن يقول : انا حي إن شاء الله تعالى. وإذا كان مؤمنا حقا ، كان مؤمنا عند الله تعالى ، وفي علم الله ، وإن كان الله تعالى يعلم أنه يتغير عن تلك الحال. وإذا كان مؤمنا في الحال كان وليا لله ، سعيدا. وإن كان كافرا ، كان عدوا له شقيا ، وكما يصير المؤمن كافرا ، يصير الولي عدوا والسعيد شقيا ، وبالعكس. وما يحكى عنهم من أن السعيد لا يشقى ، والشقي لا يسعد ، وأن السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه ، فمعناه أن من علم الله منه السعادة المعتبرة التي هي سعادة الموافاة ، فهو لا يتغير إلى شقاوة الموافاة ، وبالعكس. وكذا في الولاية والعداوة ، وأن السعيد الذي يعتد بسعادته من علم الله أنه يختم له بالسعادة. وكذا الشقاوة.
__________________
(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية في هذا الجزء