ليجعلا مذهبين متقابلين ، ويجعل كون الإعجاز بالأمرين جميعا مذهبا ثالثا ينسب إلى القاضي على ما قال إمام الحرمين أن وجه الإعجاز عندنا هو اجتماع الجزالة مع الأسلوب والنظم المخالف لأساليب كلام العرب من غير استقلال لاحدهما ، إذ ربما يدعي أن بعض الخطب والأشعار من كلام أعاظم البلغاء لا ينحط عن جزالة القرآن انحطاطا بينا قاطعا للأوهام ، وربما يقدر نظم ركيك يضاهي نظم القرآن على ما روى من ترهات مسيلمة الكذاب : الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل. فلزم كون الإعجاز بالنظم البديع مع الجزالة ، أعني البلاغة ، وهو التعبير عن معنى سديد بلفظ شريف ، وأن ينبئ عن المقصود من غير مزيد.
ثم قال : وفي القرآن سوى النظم والبلاغة وجهان آخران من الإعجاز هما : الإخبار عن قصص الأولين من غير سماع وتلقين ، والإخبار عن المغيبات المستقبلة متكررة متوالية.
قلنا : معنى الأول ان نظم القرآن وتركيبه يخالف المعتاد من أساليب كلام العرب ، إذ لم يعهد فيه كون المقاطع على مثل يعلمون ، ويفعلون. والمطالع على مثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (١) ، و(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (٢) ، و(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) ، و(عَمَّ يَتَساءَلُونَ)(٤) ، وأمثال ذلك.
ومعنى الثاني أن نظمه بالغ في الفصاحة والمطابقة لمقتضى الحال الجد الخارج عن طوق البشر ، وكان معنى النظم على الأول ترتيب الكلمات ، وضم بعضها إلى البعض. وعلى الثاني جمعها مترتبة المعاني ، متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل على ما قال عبد القاهر أن النظم هو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام. ولهذا زيادة بيان في بعض كتبنا في فن البيان. وقد استدل على بطلان الصرفة بوجوه :
__________________
(١) سورة البقرة آية رقم ٢١
(٢) سورة المزمل آية رقم ١
(٣) سورة الحاقة آية رقم ١
(٤) سورة النبأ آية رقم ١