وأما المقام الثالث : فأشراف العرب مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام ، وفرط عداوتهم للإسلام لم يجدوا فيه للطعن مجالا ، ولم يوردوا في القدح مقالا ، ونسبوه إلى السحر(١) على ما هو دأب المحجوج المبهوت تعجبا من فصاحته ، وحسن نظمه وبلاغته ، واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء أو شعر الشعراء ، وأن له حلاوة ، وعليه طلاوة وأن أسافله مغدقة ، وأعاليه مثمرة ، فآثروا المقارعة على المعارضة ، والمقاتلة على المقاولة ، وأبى الله إلا أن يتم نوره على كره المشركين ورغم المعاندين ، وحين انتهى الأمر إلى من بعدهم من أعداء الدين ، وفرق الملحدين اخترعوا مطاعين ليست إلّا هزءة للساخرين ، وضحكة للناظرين ، منها أن فيه كلمات غير عربية كالإستبرق (٢) ، والسجيل (٣) ، والقسطاس (٤) ، والمقاليد. فكيف يصح أنه عربي مبين؟ فرد بأن ذلك من توافق اللغتين ، أو المراد أنه عربي النظم والتركيب ، أو الكل عربي على سبيل التغليب ، ومنها أن فيه خطأ من جهة الإعراب مثل :
(إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٥).
و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (٦) و(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) (٧)
ورد بأن كل ذلك صواب على ما بين في علم الإعراب. ومنها أن فيه مما يكذبه ، حيث أخبر بأنه لا يتيسر للبشر والجن ، بل الإنس والجن لا يأتيان بمثل سورة منه ، وأقل السور ثلاث آيات. ثم حكى عن موسى مع اعترافه بأن هارون أفصح منه مقدار إحدى عشرة آية منه وهي :
__________________
(١) قال تعالى على لسان الكفار (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)
(٢) قال تعالى : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) الكهف آية ٣١
(٣) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) سورة هود آية ٨٢
(٤) قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) سورة الإسراء آية رقم ٣٥
(٥) سورة طه آية رقم ٦٣
(٦) سورة البقرة آية رقم ٦٢.
(٧) سورة النساء آية رقم ١٦٢.