الفصل الثالث
فى قبول توبتهم وردها
وقد ألحقنا هؤلاء بالمرتدين فى سائر الأحكام ، وقبول التوبة من المرتد لا بدّ منه ، بل الأولى ألا يبادر إلى قتله إلا بعد استتابته وعرض الإسلام عليه وترغيبه فيه. وأما نوبة الباطنية وكل زنديق مستتر بالكفر يرى التقية دينا ويعتقد النفاق وإظهار خلاف المعتقد عنه استشعار الخوف حقا ؛ ففى هذا خلاف بين العلماء : ذهب ذاهبون إلى قبولها ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (١) ؛ ولأن الشرع إنما بنى الدين على الظاهر فنحن لا نحكم إلا بالظاهر والله يتولى السرائر. والدليل عليه أن المكره إذا أسلم تحت ظلال السيوف وهو خائف على روحه نعلم بقرينة حاله أنه مضمر غير ما يظهره ، فنحكم بإسلامه ولا نلتفت إلى المعلوم بالقرائن من سريرته. ويدل عليه أيضا ما روى أن أسامة قتل كافرا فسل عليه السيف بعد أن تلفظ بكلمة الإسلام. فاشتد ذلك على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال أسامة : «إنما فعل ذلك فرقا (٢) من السيف». فقال صلىاللهعليهوسلم : «هلا شققت عن قلبه!؟» (٣) ـ منبها به على أن البواطن لا تطلع عليها الخلائق وإنما مناط التكليف الأمور الظاهرة .. ويدل عليه أيضا أن هذا صنف من أصناف الكفار ، وسائر أصناف الكفار لا يسد عليهم طريق التوبة والرجوع إلى الحق ؛ فكذلك هاهنا.
وذهب ذاهبون إلى أنه لا تقبل توبته ؛ وزعموا أن هذا الباب لو فتح لم يمكن حسم مادتهم وقمع غائلتهم ، فإنّ من سر عقيدتهم التدين بالتقية والاستسرار بالكفر عند استشعار الخوف ، فلو سلكنا هذا المسلك لم يعجزوا عن النطق بكلمة الحق
__________________
(١) ذكره الشيخان البخارى ومسلم فى الصحيحين وأبو داود والترمذي والنسائى وابن ماجه فى السنن عن أبى هريرة ؛ وهو متواتر ، ومن صيغه : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؛ فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله». ـ وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده.
(٢) فرقا : خوفا.
(٣) متفق عليه.