القول فى الصفة الثانية
وهى الكفاية
ومعناها التهدّى لحق المصالح فى معضلات الأمور ، والاطلاع على المسلك المقتصد عند تعارض الشرور ، كالعقل الّذي يميز الخير عن الشر وينصف به الجمهور ، وإنما العزيز المعون عقلا يعرف خير الخيرين وشر الشرين ، وذلك أيضا فى الأمور العاجلة وهى هينة قريبة ؛ وإنما الملتبس عواقب الأمور المخطرة ولن يستقل بها إلا مسدد للتوفيق من جهة الله تعالى.
ونحن نقول : إن هذه الصفة حاصلة ، فإن أسبابها متوافرة ، فإنها مهما حصل من غريزة العقل وانفك عن العته والخبل كان الوصول إلى درك عواقب الأمور بطريق الظنّ والحدس مبنيا على ركنين : أحدهما الفكر والتدبير ، وشرطه الفطنة والذكاء ، وهذه خصلة تميز فيها المنصور إمامته والمفروض طاعته عن النظراء بمزيد النفاذ والمضاء حتى صار أكابر العقلاء يتعجبون فى معضلات الوقائع من رأيه الصائب ، وعقله الثاقب وتفطنه للدقائق يشذ عن درك المحنكين من ذوى التجارب ، وهذه صفة غريزية ، وهى من الله تحفة وهدية.
والركن الثانى : الاستضاءة بخاطر ذوى البصائر واستطلاع رأى أولى التجارب على طريق المشاورة ، وهى الخصلة التى أمر الله بها نبيه إذ قال : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩] ثم شرطه أن يكون المستشار مميزا بين المراتب عارفا للمناصب معولا على رأى من يوثق بدهائه وكفايته ومضائه وصرامته وشفقته وديانته ، وهذا هو الركن الأعظم فى تدبير الأمور ، فإن الاستبداد بالرأى ، وإن كان من ذوى البصائر ، مذموم ومحذور ، وقد وفق الله الإمام بتفويض مقاليد أمره إلى وزيره الّذي لم يقطع ثوب الوزارة إلا على قدّه حتى استظهر بآرائه السديدة فى نوائب الزمان ومعضلات الحدثان ومراعاة مصالح الخلق فى حفظ نظام الدين والملك ، وهو الجامع للصفات التى شرطها الشرع والعقل فى المدبر والمشير ، من