الباب الأول
فى الإعراب عن المنهج
الّذي استنهجته فى هذا الكتاب
لتعلم أن الكلام فى التصانيف يختلف منهجه ، بالإضافة إلى المعنى : غوصا وتحقيقا ، وتساهلا وتزويقا. وبالإضافة إلى اللفظ : إطنابا وإسهابا واختصارا وإيجازا ، وبالإضافة إلى المقصد : تكثيرا وتطويلا ، واقتصارا وتقليلا. فهذه ثلاثة مقامات. ولكل واحد من الأقسام فائدة وآفة.
وأما المقام الأول فالغرض ـ فى الغوص والتحقيق والتعمق فى أسرار المعانى إلى أقصى الغايات ـ التوقى من إزراء المحققين وقدح الغواصين ، فإنهم إذا تأملوه فلم يصادفوه على مطابقة أوضاع الجدال وموافقة حدود المنطق عند النظار استركوا (١) عمل المصنف واستغثوا (٢) كلامه واعتقدوا فيه التقاعد عن شأو التحقيق فى الكلام والانخراط فى سلك العوام. ولكنّ له آفة وهى قلة جدواه وفائدته فى حق الأكثرين. فإن الكلام إذا كان على ذوق المراء والجدال ، لا على مساق الخطاب المقنع ، لم يستقل بدركه إلا الغواصون ، ولم يتفطن لمغاصاته إلا المحققون. وأما سلوك مسلك التساهل والاقتصار على فن من الكلام ليستحسن فى المخاطبات ففائدته أن يستلذ وقعه فى الأسماع ، ولا تكلّ عن فهمه والتفطن لمقاصده أكثر الطباع ، ويحصل به الإقناع لكل ذى حجى (٣) وفطنة وإن لم يكن متبحرا فى العلوم. وهذا الفن من جوالب المدح والإطراء ولكن من الظاهريين ، وآفته أنه من دواعى القدح والإزراء ولكن من الغواصين. فرأيت أن أسلك المسلك المقتصد بين الطرفين ، ولا أخلى الكتاب عن أمور برهانية ، يتفطن لها
__________________
(١) استركوا : استضعفوا من : رك الشيء ، يرك ركة وركاكة : رق وضعف ، فهو ركيك.
(٢) استغثوا : الغثيث والغث : اللحم المهزول ، وهو أيضا : الحديث الردىء الفاسد.
(٣) ذو الحجى : (الحجا) العقل ، وألفه بالمد وليس بالقصر. (مختار الصحاح للجوهرى).