فهذه النشأة مشوبة بالظلمة ، مخلوطة بالعدم ، فهي أخسّ النشآت وأضعفها ، ولضعفها احتاجت إلى مهد المكان ، وظئر الزمان ، وأهلها الذين هم أهلها أشقياء الإنس والجن ، وسائر الحيوانات ، والنباتات ، والجمادات ، من البسائط والمركبات المحسوسة في هذا العالم الأدنى ، الذين لا يكلّمهم الله ، ولا ينظر إليهم أبدا ، كما ورد في الحديث القدسي : «ما نظرت إلى الأجسام مذ خلقتها» (١).
والأشقياء وإن كانوا في النشأة المتوسطة أيضا بأبدانهم ، ولكنهم ليسوا من أهلها ؛ لعدم شوقهم إليها ، وتعلّقهم بها ، بل إنّما تعلّقهم وركونهم وشوقهم بهذه النشأة الأدنى الأرذل ؛ لأنهم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، فإذا فارقوها عذّبوا بفراقها ، وهذا بخلاف السعداء فإنهم وإن كانوا في النشأة الفانية أيضا بأبدانهم ، ولكنهم ليسوا من أهلها ؛ لعدم تعلّقهم بها ، وركونهم إليها ، بل إنّما شوقهم وحنينهم إلى النشأة الأخرى ، ولهذا نعموا بالوصول إليها ، ومفارقة هذا الأدنى.
ومن هنا ورد في الحديث : «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» (٢) ، وتصديق هذا ما روي في نهج البلاغة ، من كلام أمير المؤمنين عليهالسلام ، في وصف الزهّاد : «كانوا قوما من أهل الدنيا ، وليسوا من أهلها ، فكانوا فيها كمن ليس منها ، عملوا فيها بما يبصرون ، وبادروا فيها ما يحذرون ، تقلّب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة ، ويرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم ، وهم أشدّ إعظاما لموت قلوب أحيائهم» (٣).
__________________
(١) ـ لم نعثر على مصدره.
(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ٤ : ٣٦٢.
(٣) ـ نهج البلاغة : ٣٥٢ ، رقم الخطبة «٢٣٠» فضل الجد.