النار ، والشمس والقمر والنجوم كلها في النار ، ومن أحكامها أنها أودع الله فيها ما كانت منافع حيوانات الدنيا وحيوانات الجنة الّتي هي نفوس أهل النجاة بأبدانهم المناسبة لها في الأشكال والصور ، فتفعل حرارة النار بالأشياء هناك علوا ، كما يفعل بالأشياء هاهنا سفلا ، وكما هو الأمر هاهنا كذلك ينتقل إلى هناك بالمعنى ، وإن اختلفت الصور.
ألا ترى أرض الجنة مسكا ، كما ورد في الخبر ، وهو حارّ بالطبع ، ولما فيه من النار وأشجار الجنة مغروسة في تلك التربة المسكيّة كما تقتضي حال نبات هذه الدار الدنيا الزّبل ؛ لما فيه من الحرارة الطبيعية ؛ لأنّه معفن ، والحرارة تعطي التعفين في الأجسام القابلة للتعفّن ، وهذا القدر كاف في تقوي النار ، أعاذنا الله منها. انتهى كلامه (١).
وهذا الكلام وإن كان مبناه على المقدّمات الخطابية والتمثيلات إلّا أنّه إذا استقصى عاد برهانيّا ، ولو لا مخافة الإطناب لأوضحناه على وجه الحكمة ، وسبيل البرهان.
وإيّاك أن تحمل كلامه على أن جهنّم ليست إلّا هذا العالم تحت الفلك الأقصى ؛ لأنّ جهنم هي من النشأة الآخرة ، وإن كانت صورتها هي مآل الدنيا وباطنها وحقيقتها.
والّذي ذهب إليه هذا المحقّق من أن نضج فواكه الجنة وطبخ طعامها بحرارة هذا العالم وأشعة الكواكب سببه أن الإنسان إنّما يتكوّن وينمو ، ويتمّ خلقه ، وتكمل خلقته ، باستحالات وانقلابات تطرأ على مادّته ، ولا يمكن ذلك إلّا بحرارة غريزية محللة ، وتلك الحرارة مستفادة من حركات الأجرام الفلكية
__________________
(١) ـ الأسفار الأربعة : ٩ : ٣٦٦ ـ ٣٦٨.