مظهره الحواس وانفعالاتها ، فليس لها في مشهد آخر هذا النحو من الوجود الّذي تنفعل منه الحواس ، بل يشاهد هذه الأشياء في عرصة الآخرة بحقائقها ، بمشعر أخروي يتنوّر بنور ملكوت الله شأنه مشاهدة الأصل ، والمخبر ، وملاحظة الباطن والسر ، فيشاهد الجبال كالعهن المنفوش ؛ لضعف وجودها ، ويتحقق بمعنى قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١).
وتحضر الخلائق كلهم في عرصات القيامة ، فإذا هم بالساهرة ؛ إذ لا نوم فيها ، وتنكشف الأغطية والحجب لأهل البرازخ ، وترتفع الحواجز كما قال تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢).
والمتخلّصون عند ذلك عن البرازخ يتوجّهون إلى الحضرة الربوبية (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣) ، (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٤) ، إذ عدمت عند ذلك الآجال ، وزالت السنون والساعات ، ولا يبقى إلّا الله الواحد القهار ، الّذي إليه مصير جميع الأمور ، بلا وقت وزمان ، ولا حيّز ولا مكان ، فلا قبل يومئذ ، ولا بعد ، ولا هنا ، ولا هناك ، ولا ستر ، ولا حجاب ، وتبدّل الأرض غير الأرض ، فتمدّ مدّ الأديم ، وتبسط فلا ترى فيها عوجا ، ولا أمتا ، تجمع فيها الخلائق من أوّل الدنيا إلى آخرها ؛ لأنها ـ يومئذ ـ مبسوطة على قدر تسع الخلائق كلها ، ومن أطلق الله حقيقته عن قيد الزمان والمكان يعرف أنّ مجمع الزمان وما يطابقه كساعة واحدة هي شأن
__________________
(١) ـ سورة طه ، الآية ١٠٥ ـ ١٠٧.
(٢) ـ سورة إبراهيم ، الآية ٤٨.
(٣) ـ سورة يس ، الآية ٥١.
(٤) ـ سورة يس ، الآية ٥٣.