فظهر من هذه المقدمات أن للغني بالذات بإزاء كلّ نوع من أنواع الموجودات جهة هي مبدأ أفراد ذلك النوع ، متحدة معها نحوا من الاتحاد ، بل هي عين كلّ واحد منها ، فإنّ وحدتها ليست عددية من جنس وحدات الأشياء حتى يحصل من تكرّرها الأعداد ، كما عرفت ، والاتحاد فرع الاثنينية.
وقد دريت أن ليس للمفيض والمستفيض هويتان ، وإطلاق مثل هذه الألفاظ من ضيق العبارة ، فإذن تلك الأفراد من حيث وجوداتها واستغنائها بتلك الجهة ليست أمورا وراء تلك الجهة ، وأمّا من حيث ذواتها فهي معدومات صرفة.
وتلك الجهات هي أسماء الله الحسنى ، وسيأتي بيانها ، وأنها على وجه لا يوجب تكثّرها تكثّرا في الذات الأحدية بوجه من الوجوه أصلا ، بل إنها ليست لها وجودات وراء الذات ، وإلّا لزم تعدّد الغني بالذات ، إن كانت أغنياء ، والتسلسل والانتهاء إلى جهات أخرى متكثرة في الذات إن كانت فقراء ، وكلها محالات.
فإذن هي نفس الذات ، مع تعيّن ما ، فهو سبحانه مع وحدته الحقّة وبساطته الحقيقية من كلّ وجه ، كلّ الأشياء ، وليس هو شيئا من الأشياء ؛ لأنّ وحدته وحدة حقيقية ، لا مكافىء لها في الوجود ، ولهذا كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، ولو قالوا : ثالث اثنين لم يكونوا كفّارا إذ (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) ، فهو رابع الثلاثة ، وسادس الخمسة ، (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) (١) ، فهو بكلّ مكان ، وفي كلّ حين وأوان ، ومع كلّ إنس وجان ، «مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة» (٢) ، وهو معكم أينما كنتم.
__________________
(١) ـ سورة المجادلة ، الآية ٧.
(٢) ـ نهج البلاغة : ٣٩ ، الخطبة رقم «١».