إذا عرفت هذا فنقول : إنا لما بينا بالبرهان القاطع كونه تعالى واجب الوجود لذاته ، فحينئذ يلزم كونه قديما أزليا باقيا سرمديا. إلا أنا نريد أن نذكر مذاهب الناس في هذا الباب ، وطرقهم. ليكون هذا الكتاب حاويا لكل ما قيل في هذا الباب. فنقول : للمتكلمين في هذا الباب طريق ، وللفلاسفة طريق آخر. أما المتكلمون فإنهم لما أقاموا الدلالة على حدوث هذا العالم الجسماني قالوا : العالم محدث ، وكل محدث فله محدث. فالعالم له محدث ثم قالوا : ذاك المحدث إن كان محدثا كانت [علة] (١) الافتقار إلى المحدث حاصلة فيه ، وحينئذ يلزم افتقاره إلى محدث ، والكلام فيه كما في الأول ، فيلزم إما الدور وإما التسلسل ، وهما باطلان.
فيثبت أن القول بأن صانع العالم محدث يفضي إلى الأقسام الباطلة (٢) فيكون القول بحدوث الصانع باطلا ، فوجب الجزم بكونه أزليا قديما. ثم يقيمون الدليل على أن ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه وعند هذا يحكمون بأنه تعالى كما أنه قديم أزلي ، فكذلك يجب أن يكون باقيا سرمديا.
فهذا تقرير كلامهم.
ولقائل أن يقول : إن هذا الذي ذكرتم لا يدل البتة على أن خالق هذا العالم يجب أن يكون قديما وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن الإله الذي هو واجب الوجود لذاته خلق موجودا آخر ، وخلق فيه القدرة على إيجاد الأجسام. وذلك الشيء الآخر هو الذي خلق هذا العالم الجسماني ، وبهذا التقدير فإنه لا يكون خالق هذا العالم الجسماني قديما أزليا. بل يكون محدثا مخلوقا ، وخالقه يكون قديما أزليا ، وبهذا التقدير فالدور والتسلسل لا يلزمان البتة.
__________________
(١) من (س).
(٢) الثلاثة (س).