أنه ليس كل من سمع ذلك التذكير : انتفع به (١)] فإن النفوس الناطقة : مختلفة ، فبعضها ينتفع بذلك التذكير ، وبعضها لا ينتفع به ، وبعضها يضره سماع ذلك التذكير ، لأن سماعه يثير في قلبه دواعي الحسد والغيظ والغضب والإصرار على الجهل. ثم لما نبه تعالى على أن المستمع لذلك التذكير قد ينتفع به ، وقد لا ينتفع به ، أتبعه ببيان خاصية كل واحد من هذين القسمين ، فبين أن صفة من ينتفع بهذا التذكير ، هو أن يكون الخوف غالبا على قلبه ، والخشية مستولية على روحه. ولأجل ذلك الخوف : يطلب زاد المعاد ، فلا جرم أنه ينتفع بإرشاد هذا المحق. وأما الذي لا ينتفع بهذا التذكير ويتباعد عنه ، ويجتنب من القرب منه ، فهو النفس الموصوفة بكونها أشقى النفوس ، فإنها تبقى في عناء هذا العالم ، وبعد الموت تقع في نيران الحسرة والوحشة. ولما بين هذا ، أزاله في صفته ، فقال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ، وَلا يَحْيى) وإنما قال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) لما ثبت أن النفس لا تموت بموت البدن ، وإنما قال : (وَلا يَحْيى) لأنها وإن بقيت حية ، لكنها بقيت في العذاب. والموت خير من هذه الحياة ، فلهذا قال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ولما بين من لا ينتفع بذلك التذكير ، بين كمال حال من ينتفع به ، فقال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) وذلك لأن المقصود من تعليم الأنبياء ، وتذكيرهم وإرشادهم : أمران : أحدهما : إزالة الأخلاق الذميمة الجسمانية (٢) عن النفس. والثاني : تحصيل الصفات الحميدة الروحانية في النفس ، ولما كانت إزالة ما لا ينبغي مقدمة على تحصيل ما ينبغي ، لا جرم ابتدأ بقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) والمراد منه : تزكية النفس وتطهيرها عن الصفات المذمومة ، ولما ذكر ذلك ، أتبعه بتحصيل ما ينبغي ، وذلك إما في القوة النظرية ، أو في القوة العملية. ورئيس المعارف النظرية : ذكر الله تعالى ومعرفته ، ورئيس الأعمال الفاضلة : خدمة الله تعالى. فلهذا قال : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) وهو إشارة إلى استسعاد الإنسان في تكميل [قوته
__________________
(١) سقط (ت).
(٢) الروحانية (ل).