الفصل الرابع عشر
في
الشبهات المبنية على أنه ظهر
على الأنبياء أعمال تقدح في صحة نبوتهم
فالشبهة الأولى : قالوا : ثبت بالدلائل العقلية : أن كمال حال الإنسان في الدنيا والآخرة في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به [وأشرف المعارف معرفة الله تعالى (١)] وأشرف الأعمال : الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة. فيثبت : أن سعادة الخلق مربوطة بتحصيل هذين الأمرين ، وكل ما سوى هذين المطلوبين فهو عبث عديم الفائدة. وإذا ظهرت هذه المقدمة. فنقول : إنا نرى الأنبياء والرسل ينسخ بعضهم ، شرائع بعض المتقدمين ، وهذا النسخ والتبديل (٢) إما أن يكون قد وقع في هذا الذي بينا أنه هو المقصود الأصلي ، والغرض الأشرف. أو في أمور زائدة عليها ، مغايرة لها. والقسم الأول : باطل قطعا. لأنا لما بينا : أن كمال السعادة والخير ، موقوف على تحصيل هذين المطلوبين ، فكل من جاء بتقريره وتأكيده كان محقا ، وكل من
__________________
(١) إن النسخ ـ وهو لا يكون إلا في الأوامر والنواهي ـ ما حدث إلا مع ثلاثة من الرسل. أولهم نوح عليهالسلام. والناس ظلوا على شريعته إلى زمان موسى عليهالسلام. وكل نبي من بعد نوح إلى موسى كان على شريعة نوح. وظل الناس على شريعة موسى إلى زمان محمد عليهالسلام. وكل نبي من بعد موسى إلى محمد كان على شريعة موسى. والناس يعلمون أنه إلى زمان موسى كان الجنس البشري يصارع قوى الطبيعة ، ويكتشف أسرارها للبقاء والاستقرار ، ولما صار البقاء حاصلا ، أرسل إليه الله موسى نورا وهدى للناس لينظم لهم معايشهم ـ عن أمره تعالى ـ وفي زمان محمد أراد الله تعالى أن يخفف التشريعات على الناس. فكان القرآن (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) فالرسل الثلاثة هم : نوح وموسى ومحمد عليهمالسلام.