ومن جملة السور اللائقة بهذا المعنى سورة العصر. فبدأ بقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) وذلك لأنا بينا أنه حصل في بدنه تسعة عشر نوعا من أنواع القوى ، وكلها تجره إلى الدنيا وطيباتها ولذاتها. وهي الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة ، والشهوة والغضب ، والسبعة النباتية. فمجموعها تسعة عشر ، وهي الزبانية الواقفة على باب جهنم : الجسد.
وأما العقل ، فإنه مصباح ضعيف. إنما حصل بعد استيلاء تلك التسعة عشر على مملكة البدن ، وإذا كان كذلك ، فالظاهر أن حب الدنيا يستولي على النفوس والأرواح. فإذا مات البدن ، بقيت النفس في الخسران والحرمان. فلهذا قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ثم إنه استثنى من هذا الخسران ، إنسانا يتناول ترياق الأربعة ، وهو ترياق روحاني من أخلاط أربعة روحانية. أولها : كمال القوة النظرية ، وهو قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) وثانيها : كمال القوة العملية [وهو قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وثالثها : السعي في تكميل القوة النظرية للغير ، وهو قوله : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) ورابعها : السعي في تكميل القوة العملية (١)] للغير ، وهو قوله : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) وإنما عين الصبر ، لأن البلاء الأكبر في دعاء الشهوة إلى الفساد ، والغضب إلى الإيذاء ، وسفك الدماء ، كما أخبر عن الملائكة أنهم قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)؟ (٢) فإذا قدر الإنسان على الصبر ، عن إجابة الشهوة والغضب ، فقد فاز بكل الخيرات في القوة العملية.
ومن جملة الآيات الدالة على صحة ما ذكرناه : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طلبوا منه المعجزات القاهرة في قوله : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٣) ثم إنه تعالى قاله له : (قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟ يعني : كون الشخص إنسانا موصوفا بالرسالة ، معناه : كونه كاملا في قوته النظرية والعملية ، وقادرا على معالجة الناقصين في
__________________
(١) من (ل ، ط).
(٢) البقرة ٣٠.
(٣) الإسراء ٩٠.