بالطريق الأدون الأنقص؟
وأما القسم الثاني : هو أن يقال : إنه إنما كلفه لأجل المنافع المستقبلة. فنقول : هذا أيضا ممتنع. وبيانه من وجهين (١) :
الأول : وهو : أنه لما علم من أحوال الكفار والفساق أنهم لا يتوصلون بهذا التكليف إلا لاستحقاق العذاب الشديد ، والآلام العظيمة. كان القول بأنه إنما كلفهم للفوز بالمنافع : كلام متناقض.
الثاني : وهو أنه لو أراد بهم ذلك ، لوجب أن يفرغهم من متاعب الدنيا وآلامها ، وأن يظهر لهم الدلائل الواضحة ، في أن الحق هو ذلك. ولما لم يفعل بهم ذلك ، بل أحوجهم إلى الأشياء الكثيرة ، وعلم أن تلك الحاجات تحملهم على المعاصي ، ثم سلط عليهم الشهوات والشبهات ، وسلط عليهم شياطين الإنس والجن. ومن فعل بالعبد الضعيف الذي يقل عقله ، وتضعف قدرته هذه المعاملة ، ثم يزعم : أنه أراد به الخير ، والفوز بالرحمة ، كانت العقول تنادي عليه : بأنه ما قصد إلا الإساءة إليه والإيذاء. والكلام في هذه المباحث مفرع على تحسين العقل وتقبيحه ، فثبت : أن هذين (٢) الوجهين ينافيان القول بجواز التكليف.
الحجة الرابعة : إنه تعالى كان قادرا على أن يخلق الكل في الجنة ، وأن يوصلهم إلى الخيرات والدرجات ، وأن يحميهم عن منازل الآفات والمخافات. فلو أراد بهم خيرا لخلقهم على هذه الصفة ولما لم يفعل ذلك ، بل سلط عليهم الشهوات والشبهات ، وملأ العالم من الشياطين. علمنا أنه ما أراد بهم خيرا. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : إنه كلفهم لأجل التعريض للمصالح.
أما القول الأول : وهو أنه كلفهم لا لغرض ومصحلة ، فهذا عبث ، والعبث قبيح في العقل ، ونحن إنما نتكلم الآن على تسليم أن يكون تحسين العقل وتقبيحه معتبرا. فيثبت بهذه البيانات : أن على تقدير أن يكون تحسين
__________________
(١) من وجوه : الأصل.
(٢) هذه الوجوه تنافي القبول (ت).