لكنا نعتقد فيه أنه ملك بعيد الغور ، عظيم الفكر ، كامل العقل قد يأتي بأفعال يظن بها أنها توجب المفاسد العظيمة إلا أنه بعقله الكامل ، وفكره الغائص ، يعرف فيها من وجوه المصالح الخفية ما لا يقف عليه الغير البتة. فإذا اعتقدنا في الملك هذه الصفة ، لم يصر ظاهر أفعاله دليلا على التصديق والتكذيب. ومن المعلوم : أن أقسام حكمة الله تعالى في تدبير السموات والأرض ، فما لا سبيل لأحد إلى الوقوف على معاقده وضوابطه ، فكيف يمكن قياس أحد البابين على الآخر؟
الفرق الثاني : إن الملك في الشاهد لو أتى بذلك المطلوب ، مع أن ذلك المدعي يكون كاذبا. لكان ذلك سعيا منه في [إفساد مملكته ، وذلك بعيد. لأن سعيه في إفساد مملكة نفسه ، سعى منه في (١)] إلحاق الضرر بنفسه ، وأنه بعيد ، بخلاف الحال في هذه المسألة ، فإنه تعالى لا ينفعه شيء ، ولا يضره شيء. فكيف يمكن قياس أحد البابين على الآخر؟
الفرق الثالث : إنا قبل ذلك المجلس شاهدنا صورته ، وعرفنا كيفية تدبيره وضبطه للملكة ، فتتأكد بعض تلك الإمارات بالبعض ، ويتولد من المجموع : الجزم واليقين ، أما في حق لله تعالى فلم يشاهد منه إلا هذا الفعل الواحد ، الدال على صدق هذا المدعي ، وأما البواقي فأحوال عظيمة لا تصل إلى كيفيتها وكميتها عقول الخلق ، فظهر الفرق.
ثم نقول : إن هذه الفروق إنما نحتاج إلى ذكرها ، إذا عرفنا بأن قياس الغائب على الشاهد : طريقة مقبولة في المسائل العقلية. فإنا قد بينا في علم المنطق بالدلائل الكثيرة أنها طريقة ضعيفة لا تفيد الظن المقنع ، فكيف الجزم واليقين؟ [فإنه لا حاجة بنا إلى هذه الفروق ، بل ذكرها يجري مجرى الزيادة ، التي لا حاجة إليها. والله أعلم (٢)].
__________________
(١) من (ل) ، (طا).
(٢) من (ل) ، (طا).