ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الناس يشاهدون ذلك الملك في صورة البشر (١)؟ ويكون الفرق بينه وبين سائر البشر : أن لا يحتاج إلى الأكل والشرب والملبوس والمنكوح ، وهذا القدر من التفاوت لا يوجب الخوف الشديد ، ويحصل الامتياز بينه وبين سائر الناس. وأما قوله ثانيا الملائكة لهم قهر شديد فهم لا يسامحون البشر. قلنا : الملائكة لا يعصون الله فيما يأمرهم ، فإذا أمرهم بالرفق لم يفعلوا شيئا من التشديد.
وأما قوله ثالثا : الجنس إلى الجنس أميل. فنقول : حصول الميل في القلب ، ليس إلا من الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فيثبت بما ذكرنا : أن إرسال الرسول من زمرة الملائكة ، أفضى إلى المقصود. ونقول : لو كانت الرسالة جائزة ، لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة [لأن الحكيم (٣)] إذا أراد تحصيل مطلوب ، وكان له إليه طريقان ، وكان أحد الطريقين أفضى إلى حصول ذلك المطلوب من الطريق الثاني ، فإنه يجب عليه بمقتضى حكمته ، أن يرجح الطريق الأفضل الأكمل.
الوجه الثاني في تقرير هذه الشبهة : إن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به. ونرى البشر ناقصين في هذين الوصفين ، فاحتاجوا إلى شخص يكون كاملا فيهما ، حتى يصير ذلك الكامل مكملا للناقصين ، وذلك المكمل يجب أن يكون مبرأ عن النقصان في هذين الوصفين ، وإلّا لافتقر إلى مكمل آخر ، ولزم التسلسل ، وكل من كان بشرا فإنه لا ينفك عن الشهوة والغضب ، وبسبب حصول هذين الوصفين (٤) يكون النقصان حاصلا فيهم. أما الملائكة فهم مقدسون عن الشهوة والغضب ، والخيال والوهم ، مستغرقون في المعارف الإلهية ، مواظبون على الطاعات والعبادات. فكانت بعثتهم لأجل تكميل الناقصين أولى.
__________________
(١) الملائكة (ت).
(٢) الأنفال ٦٣.
(٣) سقط (ت).
(٤) هذين الوصفين (ت).