ثم قال الشاطبيّ :
فصل
وقد ظهر ، مما تقدم ، الجواب عما أوردوا من الأحاديث التي قالوا : إن القرآن لم ينبه عليها. فقوله عليهالسلام (١) «يوشك رجل منكم متكئا على أريكته ... إلى آخره» لا يتناول ما نحن فيه. فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن. وهذا لم ندّعه في مسألتنا هذه. بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى.
وقوله : «ألا وإنّ ما حرم رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل ما حرم الله» صحيح على الوجه المتقدم. إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه ، وإما بالطريقة القياسية ، وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة. ومرّ الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها. وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وعلى العقل. وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال : ٧٢] وهذا فيمن لم يهاجر ، إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره ، فعلى الغير النصر. والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر. فهو مما يرجع إلى النظر القياسيّ. وأما أن «لا يقتل مسلم بكافر» (٢) فقد انتزعها العلماء من الكتاب. كقوله : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء : ١٤١] وقوله : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] وهذه الآية أبعد ، ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودا في القرآن على التنصيص أو نحوه لم يجعلها عليّ خارجة عن القرآن حيث قال : ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. إذ لو كان في القرآن لعدّ الثّنتين ، دون قتل المسلم بالكافر. ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم. لأن الله قال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة : ١٧٨] فلم يقد من الحر العبد. والعبودية من آثار الكفر. فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر. وأما إخفار ذمة المسلم فهو من باب نقض العهد. وهو في القرآن. وأقرب الآيات إليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
__________________
(١) أخرجه ابن ماجة في المقدمة ، باب تعظيم حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم والتغليظ على من عارضه ، حديث ١٢.
(٢) أخرجه البخاري في الديات ، باب لا يقتل المسلم بالكافر.