و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الجوهريّ : هما اسمان مشتقان من الرحمة. ونظيرهما في اللغة «نديم وندمان» وهما بمعنى. ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد ، كما يقال : جادّ مجدّ إلّا أن (الرَّحْمنِ) اسم مخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره. ألا ترى أنه قال : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) [الإسراء : ١١٠] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره.
وقد ناقش في كون (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بمعنى واحد ، العلّامة الشيخ محمد عبده المصريّ في مباحثه التفسيرية قائلا : إن ذلك غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها ـ ثم قال : ـ وأنا لا أجير لمسلم أن يقول ، في نفسه أو بلسانه : إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها ، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود. والجمهور : على أن معنى الرحمن المنعم بجلائل النعم ، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها. وبعضهم يقول : إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم ، والرحيم المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم باللغة مبنيّ على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقا ، فصيغة (الرَّحْمنِ) تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه ، سواء كان جليلا أو دقيقا. وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا ، فهو غير معنيّ ولا مراد ، وقد قارب من قال : إن معنى (الرَّحْمنِ) المحسن بالإحسان العام. ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين ، ولعل الذي حمل من قال : إن الثاني مؤكد للأول ـ على قوله هذا ـ هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة ، مع عدم التفطّن لما هو أحسن منه ، ثم قال : والذي أقول : إن لفظ «رحمن» وصف فعليّ فيه معنى المبالغة ـ كفعّال ـ ويدل في استعمال اللغة على الصفات العارضة ـ كعطشان وغرثان وغضبان ـ وأما لفظ «رحيم» فإنه يدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس ـ كعليم وحكيم وحليم وجميل ـ والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربيّ البليغ في الحكاية عن صفات الله عزوجل التي تعلو عن مماثله صفات المخلوقين ، فلفظ (الرَّحْمنِ) يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان ، ولفظ (الرَّحِيمِ) يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان ، وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة ، وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر ، ولا يكون الثاني مؤكّدا للأول. فإذا سمع العربيّ وصف الله جلّ ثناؤه بـ (الرَّحْمنِ) ، وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا ، لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما ـ لأن الفعل قد