وجه إيثاره في عذاب المنافقين ـ على «العظم» المتقدم في وصف عذاب الكافرين ـ ويؤيده : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [النساء : ١٤٥].
(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء للسببيّة أو للمقابلة ـ أي بسبب كذبهم أو بمقابلته ـ وهو قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين. وفيه رمز إلى قبح الكذب ، وسماجته ، وتخييل أن العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم ـ مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى ـ ونحوه قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥] ـ والقوم كفرة ـ وإنما خصّت الخطيئات استعظاما لها ، وتنفيرا عن ارتكابها.
القول في تأويل قوله تعالى :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢)
شروع في تعديد بعض من مساوئهم المتفرّعة ـ على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق ـ و «الفساد» خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به. ونقيضه «الصلاح» وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض : تهييج الحروب والفتن ، لأن في ذلك فساد ما في الأرض ، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس ، والزروع ، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥]. (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ـ ومنه قيل لحرب كانت بين طيء : حرب الفساد ـ.
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم ، وإغرائهم عليهم ، واتخاذهم أولياء ، مع ما يدعون في السرّ إلى : تكذيب النبي صلىاللهعليهوسلم وجحد الإسلام ، وإلقاء الشبه ، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلىاللهعليهوسلم ، ونصب الحرب له ، وطمعهم في الغلبة ، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد ـ بتهييج الفتن بينهم ـ قيل لهم : لا تفسدوا ـ كما تقول للرجل : لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته ـ وقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ