قاصر النظر ، ضعيف العقل ، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كلّ محبوب. وهذه حال أكثر الخلق ، إلّا من صحت بصيرته ـ فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب ، والمشاقّ ، والتعرّض لإتلاف المنهجة ، والجراحات الشديدة ، وملامة اللوّام ، ومعاداة من يخاف معاداته ـ لم يقدم عليه ، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة ، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون ، وفيها تنافس المتنافسون. وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام ، فلم يعلم ـ من سفره ذلك ـ إلا مشقّة السفر ، ومفارقة الأهل والوطن ، ومقاساة الشدائد ، وفراق المألوفات ، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر هذا السفر ، ومآله ، وعاقبته ـ فإنه لا يخرج إليه ، ولا يعزم عليه. وحال هؤلاء ، حال الضعيف البصيرة والإيمان ، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد ، والزواجر والنواهي ، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات ـ والفطام على الصبيّ أصعب شيء ، وأشقّه ـ والناس كلهم صبيان العقول ، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء ، وأدرك الحقّ علما ، وعملا ، ومعرفة ، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيّب ، وما فيه ـ من الرعد والبرق والصواعق ـ ويعلم أنّه حياة الوجود.
التنبيه الثالث :
قال القاشانيّ : «إنّما بولغ في ذكر فريق المنافقين ، وذمّهم ، وتعييرهم ، وتقبيح صورة حالهم ، وتهديدهم ، وإيعادهم ، وتهجين سيرهم وعاداتهم : لإمكان قبولهم للهداية ، وزوال مرضهم العارض. عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم ، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم ، فتتزكّى بواطنهم ، وتتنوّر قلوبهم ، فيسلكوا طريق الحقّ. ولعلّ موادعة المؤمنين ، وملاطفتهم إيّاهم ، ومجالستهم معهم ـ تستميل طباعهم ، فتهيج فيهم محبّة ما ، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر لله ، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله ، فيتوبوا ويصلحوا ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ١٤٥ ـ ١٤٦].
القول في تأويل قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢١)
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) لمّا ذكر الله علوّ طبقة كتابه الكريم ، وتحزّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق ، مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام ،