وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ، وما اختصت به كلّ فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ، أقبل عليهم بالخطاب ـ وهو من الالتفات المذكور عند قوله جلّ ذكره (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ـ وهو فنّ من الكلام جزل ، فيه هزّ وتحريك من السامع ـ كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما : إنّ فلانا من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان! من حقّك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادّة السّداد في مصادرك ومواردك ـ نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه ، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ، وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازّا من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة. وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول. وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وأسباب من المبالغة. كالإيضاح بعد الإبهام ، واختيار لفظ البعيد وتأكيد معناه بحرف التنبيه.
ومعلوم أنّ كل ما نادى الله له عباده : من أوامره ، ونواهيه ، وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك ... مما أنطق به كتابه ـ أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان علّمهم أن يتيقّظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون. فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ ـ أفاده الزمخشريّ ـ.
والمراد بالناس : كافّة المكلّفين ـ مؤمنهم وكافرهم ـ فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ، ابتداؤها. (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود «و» ـ خلق ـ (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي كي تتقون ، كقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وقوله سبحانه (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢]. وفي إيراد «لعلّ» تشبه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجوّ منه أمرا هيّن الحصول. فإنّه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلّة عقليّة ونقليّة داعية إليها ، ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة ، لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجي منه ـ مع تمكّنه من خلافه ـ وصار طلب الله تعالى لعبادته واتّقائه بمنزلة الترجّي ـ فيما ذكرناه ـ.