وإن تأملت ، متعمقا ، فهي غير محصورة. والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل. لا سيما بحسب ما اخترناه من التوجيه. انتهى.
وقال الإمام الشاطبيّ في الموافقات : الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم ، في الإطلاق ، أعم منه في كلام الأصوليين. فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا ، وعلى تخصيص العموم ، بدليل متصل أو منفصل ، نسخا ، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا ، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعيّ ، بدليل شرعيّ متأخر ، نسخا. لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد. وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جيء به آخرا ، فالأول غير معمول به ، والثاني هو المعمول به. وهذا المعنى جاء في تقييد المطلق. فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده ، فلا إعمال له في إطلاقه ، بل المعمل هو المقيد ، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا ، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العامّ مع الخاص. إذ كان ظاهر العام شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ. فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار ، فأشبه الناسخ والمنسوخ. إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة ، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص ، وبقي السائر على الحكم الأول ، والمبين مع المبهم ، كالمقيد مع المطلق. فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني ، لرجوعها إلى شيء واحد. ولا بد من أمثلة تبين المراد : فقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء : ١٨] أنه ناسخ لقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الشورى : ٢٠] وهذا ، على التحقيق ، تقييد لمطلق. إذ كان قوله (نُؤْتِهِ مِنْها) مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة ، وهو قوله في الأخرى (لِمَنْ نُرِيدُ) وإلا فهو إخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ.
وقال في قوله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى قوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) [الشعراء : ٢٢٤ ـ ٢٢٦] هو منسوخ بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً ..) [الشعراء : ٢٢٧] الآية ، قال مكيّ ـ وقد ذكر عن ابن عباس ، في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء ، أنه قال : منسوخ ـ قال : وهو مجاز لا حقيقة. لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه ، بيّنه حرف الاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول ، والناسخ منفصل من المنسوخ ، رافع