تكون المحقرات من الأشياء ومضروبا بها المثل ـ ليس بموضع للاستنكار والاستغراب. من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب. وإدناء المتوهّم من المشاهد. فإن كان المتمثّل له عظيما ، كان المتمثّل به مثله. وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك. فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذا ، إلّا أمرا تستدعيه حال المتمثّل له وتستجرّه إلى نفسها ، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضيّة. ألا ترى إلى الحقّ لما كان واضحا ، جليا أبلج. كيف تمثّل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضدّ صفته ، كيف تمثل له بالظلمة؟ أفاده الزمخشريّ.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى ـ أي : فأمّا المؤمنون (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ـ كسائر ما ورد منه تعالى ـ والحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. وذلك لأن التمثل به مسوق على قضيّة مضربه ، ومحتذى على مثال ما يستدعيه ـ كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفّار أندادا لله تعالى ـ وجعلت أقل من الذباب ، وأخسّ قدرا. وضربت لها البعوضة فما دونها مثلا ، لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقلّ ...! فالمؤمنون ـ الذين عادتهم الإنصاف ، والعمل على العدل والتسوية ، والنظر في الأمور بناظر العقل ـ إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحقّ الذي لا تمرّ الشبهة بساحته ، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ممّن غلبهم الجهل على عقولهم ، وغشيهم على بصائرهم ـ فلا يتفطّنون ، ولا يلقون أذهانهم. أو عرفوا أنّه الحق ، إلّا أنّ حب الرياسة ، وهوى الإلف والعادة ، لا يخليهم أن ينصفوا (فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي : فإذا سمعوه عاندوا ، وكابروا ، وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار. ولا خفاء في أنّ التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها ـ مما لا تخفى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة. ولكنّ ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ، ولا متشبّث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمي لفرط الحيرة ، والعجز عن إعمال الحيلة ، بدفع الواضح ، وإنكار المستقيم ، والتعويل على المكابرة والمغالطة ـ إذا لم يجد سوى ذلك معوّلا. (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جواب عن تلك المقالة الباطلة ، وردّ لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة ، وغاية جميلة ، هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدّين للهداية ،