(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) التفات إلى خطاب المذكورين ، مبنيّ على إيراث ما عدّد من قبائحهم السابقة ، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع. والاستفهام إنكاريّ بمعنى إنكار الواقع. واستبعاده ، والتعجيب منه ، لأن معهم ما يصرف عن الكفر ، ويدعو إلى الإيمان (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أجساما لا حياة لها عناصر ، وأغذية ، ونطفا ، ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة ـ وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية ، إمّا حقيقة ـ بناء على أنّ الميت عادم الحياة مطلقا. كما في قوله تعالى : (بَلْدَةً مَيْتاً) [الفرقان : ٤٩] و (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس : ٣٣]. أو استعارة ، جريا على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة ، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. (فَأَحْياكُمْ) بخلق الأرواح ، ونفخها فيكم. وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه ، غير متراخ عنه ، بخلاف البواقي (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند ما تقضى آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور ، والبعث ، للحساب والجزاء (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ـ بعد الحشر ـ فيجازيكم بأعمالكم : إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ. فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه ...!
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم ، لم يعلموا أنّه يحييهم ثم إليه يرجعون ، فيكف نظم ما ينكرونه ، من الإحياء الأخير والرجع ، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة ...؟
قلت : تمكّنهم من العلم بهما ـ لما نصب لهم من الدلائل ـ منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر. سيّما وفي الآية تنبيه على ما يدلّ على صحتهما. وهو أنّه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا ، قدر على أن يحييهم ثانيا. فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته ..! أو الخطاب ، مع أهل الكتابين. وإنكار اجتماع الكفر ـ مع القصة التي ذكرها الله تعالى ـ إمّا لأنها مشتملة على آيات بيّنات تصرفهم عن الكفر ، أو على نعم جسام حقّها أن تشكر ولا تكفر. أو لإرادة الأمرين جميعا. فإنّ ما عدّده آيات ، وهي ـ مع كونها آيات ـ من أعظم النعم.
القول في تأويل قوله تعالى :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)