أجلها. وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية ، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد. والمعنى هو المقصود. ولا أيضا كل المعاني. فإن المعنى الإفراديّ قد لا يعبأ به إذا كان المعنى التركيبيّ مفهوما دونه. كما لم يعبأ ذو الرمة ببائس ولا يابس ، اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم. وأبين من هذا ما في جامع الإسماعيليّ المخرج على صحيح البخاريّ عن أنس بن مالك ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ «فاكهة وأبّا» (١) قال : ما الأبّ؟ ثم قال : ما كلفنا هذا. أو قال : ما أمرنا بهذا. وفيه أيضا عن أنس أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله : «فاكهة وأبّا» ما الأبّ؟ فقال عمر : نهينا عن التعمق والتكلف. ومن المشهور (٢) تأديبه لضبيع. حين كان يكثر السؤال عن المرسلات والعاصفات ونحوهما. وظاهر من هذا كله أنه إنما نهى عنه لأن المعنى التركيبيّ معلوم على الجملة ، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفيّ ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره ، مما هو أهم منه ، تكلف. ولهذا أصل في الشريعة صحيح ، نبّه عليه قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ..) [البقرة : ١٧٧] إلى آخر الآية. فلو كان فهم اللفظ الإفراديّ يتوقف عليه فهم التركيبيّ لم يكن تكلفا ، بل هو مضطر إليه. كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) [النحل : ٤٧] فإنه سأل عنه على المنبر. فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص. ثم أنشده :
تخوّف الرّحل منها تامكا قردا |
|
كما تخوّف عود النّبعة السّفن |
فقال عمر : أيها الناس! تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم. فإن فيه تفسير كتابكم.
__________________
(١) أورد ابن كثير في تفسيره ما يأتي : وقال أبو عبيد أيضا : عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وفاكهة وأبّا) فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقال محمد بن سعد : ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وفي ظهر قميصه أربع رقاع. فقرأ (وفاكهة وأبّا) فقال : فما الأبّ؟ ثم قال : هو التكلف ، فما عليك أن لا تدريه؟
(٢) أخرج الدارميّ في مسنده ، في المقدمة ، باب كراهية الفتيا ، ما يأتي : أخبرنا أبو النعمان ، ثنا حماد بن زيد ، ثنا يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر ، وقد أعدّ له عراجين النخل. فقال : من أنت؟ قال عبد الله صبيغ. فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه ، وقال : أنا عبد الله عمر. فجعل له ضربا حتى دمّى رأسه. فقال : يا أمير المؤمنين! حسبك. قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي.